مراد عبد الله – عنب بلدي
عاصمة “الأناقة”، هكذا كان يطلق على دمشق في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت سوريا متقدمة صناعيًا واقتصاديًا، وحينها قال رئيس الوزراء الماليزي السابق، مهاتير محمد “سأجعل ماليزيا مثل دمشق”، لكن السوريين يتساءلون اليوم أين أصبحت ماليزيا وماذا حلّ بدمشق؟
مشاريع ضخمة أكل عليها الدهر وشرب، بقيت لعشرات السنين رهينة للحكومات السورية المتعاقبة، من أبرزها خط “ميترو دمشق”، الذي أصبح حكاية يتناقلها الأجيال، ويتساءلون متى سيبصر المشروع النور؟
في العام 2000 استلم بشار الأسد الحكم خلفًا لوالده، مطلقًا ما سمي آنذاك بـ “مسيرة التطوير والتحديث”، ورأى فيها بعض السوريين طريقًا لإعادة “أمجاد الماضي”.
ميترو دمشق.. أربعة وثلاثون عامًا نزداد كهولة
مشروع نقل ضواحي العاصمة بواسطة “الميترو”، تردّد على لسان مسؤولين سوريين على مدى عقود، لكنه ربما سيدخل موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية كأطول مدة تنفيذ لمشروع ميترو في العالم.
فالمشروع ليس وليد السنوات القليلة الماضية، وإنما ترجع بداية دراسته الأولية إلى 1982 بين خبراء من الاتحاد السوفيتي والحكومة السورية استمرت لعام ونصف، واتفق الطرفان في النهاية على إنشاء الميترو بطول 46 كيلومترًا، موزعة على 42 محطة، بكلفة 39 مليار و500 مليون ليرة، ومدة التنفيذ 23 عامًا، بمعدل 2 كيلومتر في العام.
وقسم المشروع إلى أربعة خطوط، بحسب صحيفة الثورة الحكومية، وهي “الخط الأحمر” بطول 12 كيلومترًا، بـ 23 محطة تبدأ اعتبارًا من المزة، و”الخط الأزرق” بطول 7 كيلومتر و8 محطات يبدأ من القدم مرورًا بالمركز وينتهي بالمناطق الجبلية، و”الخط الرمادي” بطول 5 كيلومتر و5 محطات يبدأ من الجنوب الشرقي وينتهي بالمهاجرين، و”الخط الدائري الحلقي” لتلبية تيارات الركاب طوله 21 كيلومترًا بـ 17 محطة.
لكن هذه الدراسة لم ينفذ منها شيء، لتتوالى بعدها دراسات من عدة دول أخرى أبدت استعدادها للتنفيذ، لكن في كل مرة كان يكتب لها الاخفاق، حتى عام 2002 حين صمّم مجموعة من الخبراء الاستشاريين خطًا جديدًا يشمل أربعة خطوط، الخط الأخضر والأحمر والأصفر، والخط الأزرق.
العقوبات الاقتصادية توقف المشروع
وقبل بداية الثورة السورية، وتحديدًا في 2010، عادت الآمال للسوريين مرة جديدة، عندما أعربت الحكومة الفرنسية عن استعدادها لتمويل المشروع بمنح قرض ميسر لمحافظة دمشق بقيمة 250 مليون يورو، وإعلان بنك الاستثمار الأوروبي مساهمته في تمويل المشروع بمبلغ 300 مليون يورو، حسبما قاله رئيس هيئة تخطيط الدولة آنذاك، تيسير الرداوي، في لقائه مع جان نويل شابولو، الخبير لدى المديرية العامة للخزينة والسياسات الاقتصادية الفرنسية، الذي زار دمشق للبحث في كيفية إدارة عملية تمويل الخط الأخضر للميترو.
وبحسب الدراسات، فإن الخط الأخضر يمتد من القابون (جانب كراجات البولمان) حتى المعضمية، مرورًا بساحة العباسيين، شارع حلب، شارع الملك فيصل، ساحة الحجاز، جامعة دمشق، الجمارك، أوتوستراد المزة، السومرية، المعضمية، بطول 16.5 كيلومترًا ويتألف من 17 محطة، ويخدّم أكبر عدد من الركاب، وكان من المقرر بدء العمل به في 2010، وافتتاحه في نهاية 2015.
لكن مع بداية الثورة فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على شركات ومسؤولين سوريين، ومنع الشركات الأوروبية من الاستثمار في سوريا، ما حمل الشركة الفرنسية إلى التراجع عن تمويل المشروع.
وذكرت مصادر في محافظة دمشق، بحسب موقع “سيريانديز” المقرّب من النظام، أن ميترو دمشق الأخضر، الذي كان من المقرر أن ينتهي تنفيذه في عام 2015، توقف نتيجة إيقاف الممول الرئيسي للمشروع عن تمويله من خلال تجميد الأرصدة المالية المخصصة للمشروع من قبل بنك الاستثمار الأوروبي وشركة “ايتا” الفرنسية.
الاتفاق مع الصين
عادت القضية إلى الواجهة بعد إعلان الصين استعدادها لتمويل المشروع بنصف مليار دولار، بحسب ما صرح به مدير المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي، حسنين محمد علي، لصحيفة “الوطن” المقربة من النظام، العام الماضي.
وأكد علي أن وزارة النقل خاطبت وزارة الخارجية للتنسيق مع السفارة الصينية للحصول على مخاطبة رسمية بشأن التمويل، ولا سيما أن الصينيين قدموا العرض وأبدوا تكفلهم بالموضوع، مشيرًا إلى أنه سيتم توقيع مذكرة تفاهم بين البلدين، دون ذكر موعد محدد للبدء بالمشروع.
عدم الجدية والدراسات الخاطئة سبب فشل المشروع
علي أكد أن المؤسسة نفذت جزءًا من المشروع، إذ حفرت أنفاقًا ضمن مدينة دمشق من محطة الحجاز حتى محطة القدم بطول 5 كيلومتر ونسبة التنفيذ 70% على هذا المحور.
لكن مدير شؤون الانتخابات ومسؤول تشكيل المجالس في وزارة الإدارة المحلية، التابعة للحكومة المؤقتة، المهندس محمد مظهر شربجي، أكد أن هذا غير دقيق، ولم ينفذ من الاتفاق حتى 5%، فلا يوجد شيء على أرض الواقع، مشيرًا إلى أن الخط الحديدي ليس عبارة عن حفر أنفاق ترابية فحسب، وإنما بحاجة إلى بناء غرف اسمنتية للحماية تحت الأرض، وهذا لا يوجد منه شيء في سوريا، وإنما يوجد حفر في الأرض فقط في القدم والحجاز.
واعتبر شربجي، الذي كان رئيس شعبة نقابة المهندسين السوريين في ريف دمشق، أنه بالرغم من أهمية المشروع حيويًا واقتصاديًا إلا أن تنفيذه خاطئ، لأن إنشاء ميترو في دمشق صعبٌ عمليًا، فذلك يحتاج إلى تهديم بيوت كثيرة.
فطريق الميترو، بحسب الدراسة، سيمرّ من أماكن لها قيمتها التاريخية في سوريا وتضم مبان أثرية لا يمكن الاستغناء عنها، مثل محطة الحجاز أو المرجة أو شارع الملك فيصل، ما يعني خللًا في دراسات البنى التحتية التي وضعها خبراء من خارج سوريا، لا دراية لهم فيها، بحسب شربجي، الذي أكّد على ضرورة “وجود خبراء محليين”.
يضاف ذلك إلى عدم جدية الدولة في إتمام المشروع بسبب عدم وجود قدرة مالية كافية لديها لحفر أنفاق تحت الأرض، فلا يمكن للشركات الخاصة المحلية تنفيذه دون خبرات وشركات وتمويل عالمي.
لماذا يجب إنشاء الميترو؟
وفي دراسة قامت بها جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية في 2013، أكدت على وجود مبررات لإنشاء خط الميترو، منها “مبررات فنية ونقلية وبيئية”، فالدراسات والإحصائيات التي أجريت في مدينة دمشق تشير إلى أن استمرار الحالة النقلية والمرورية في مدينة دمشق على حالها الآن، سيؤدي إلى اختناقات مرورية وإلى شلل الحركة في المدينة وزيادة أوقات الانتظار الطويلة، خاصة وأن معظم الشوارع أشبعت بالحركة، بينما أعطى مقياس السرعات على محاور متعددة في المدينة سرعات متدنية في معظم الشوارع الرئيسية تقل عن 10 – 15 كم/سا.
وإلى جانب مبررات النقل تأتي مبررات الاقتصاد والأمان، فتقدّر إحصائيات الجامعة أن من 1300 إلى 1500 شخص يقتلون سنويًا بسبب الحوادث المرورية ويصاب بين 6700 و7000 شخص، ومن المتوقع أن إنشاء الميترو سيخفف من هذه الحوادث.
إضافة إلى أن نحو أربعة مليارات ليرة سورية هي قيمة ضياع الوقت للركاب ووسائط النقل في شوارع دمشق الرئيسية، بحسب دراسة للشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية.
وبين وعود النظام ودراساته الممتدة منذ 34 عامًا يبقى السوريون يتأملون بحلول لعوائق التنقل في دمشق، خاصةً بعد تكثيف الحواجز الأمنية في السنوات الخمس الماضية، والتي تشهد طوابير للتفتيش و”التفييش”.
بالرغم من أهمية المشروع حيويًا واقتصاديًا إلا أن تنفيذه خاطئ، لأن إنشاء ميترو في دمشق صعبٌ عمليًا، فذلك يحتاج إلى تهديم بيوت كثيرة.