على امتداد رصيف يلفّ ملعب تشرين لكرة القدم وسط دمشق، يصطف عشرات الشبان السوريين بانتظار السماح لهم بدخول المدرجات وأخذ مقاعدهم من أجل مشاهدة مباراة نهائي كأس الجمهورية بين ناديين محليين، في مشهد غاب عن أعين السوريين منذ اندلاع الثورة في 2011.
يفيد المشهد أن المشجعين والمهتمين بكرة القدم والأنشطة الرياضية وعديد الراغبين بحضور الدوري والمسابقات والأنشطة الرياضية في ازدياد، فقد ملوا رتم الحرب وسقوط قذائف الهاون، والوقوف على الحواجز بانتظار تفتيشهم.
قد يكون حجم الإقبال “وسوء التنظيم” بقصد متابعة المباراة أكبر، وفق ما أظهره تسجيل مصور نشرته شبكة “دمشق الآن” في “فيس بوك”، وحالة الحماس لدى الراغبين بالحضور أسخن من رتم المباراة بين الجيش والوحدة، والتي انتهت بفوز نادي العاصمة بهدف مقابل لاشئ، وهو ما يفسر الرغبة “الجامحة” للسوريين بالخروج من روتين الحرب والترقب والحياة اليومية وانتظار ما سيحدث غدًا” وفق صحفي سوري، رفض الكشف عن اسمه من دمشق.
قبلها، نشرت وكالة أنباء “رويترز”، مجموعة صور من قلب دمشق، تظهر عودة “البارات” و”الحانات” إلى العمل بعد أن هجرها السوريون بسبب الصراع وتراجع “المود العام” عن مثل هذه النشاطات لدى أغلبية مرتاديها في وقت بدؤوا فيه بالبحث عن سبل للحياة والنجاة من الخطر الداهم والعنف الذي يستهدف السوريين حيثما وجدوا، فهذه النوادي عادت للعمل “تحت رغبة السوريين بالتواصل مع بعضهم، وآخرون يقصدونها للعمل”.
ونقلت الوكالة عن مصادرها، أن عادات بدأت تبرز في دمشق “كتناول الكحول بشكل علني، وانتشار البارات وملاهي الرقص بشكل عشوائي، في حارات دمشق القديمة”، وإن كان من يقوم بهذه الأعمال “شبيحة الأسد” الذين جاؤوا من مناطق متفرقة من سوريا ليستقروا في دمشق.
داخل جداران ما بات يعرف بـ “سوريا المفيدة” والتي لا تزال تديرها حكومة النظام السوري، قد يصدمك أيضًا حجم الانقسام والتناقضات التي تعبر عن مآلات الوضع السوري المتأزم منذ خمس سنوات، حيثما وجهت وجهك تجد مظاهر أفرزتها سنوات الصراع الذي بدأ بثورة سلمية ثم تحول إلى عمل عسكري يلف معظم البلاد، ويتخلّله الفقر، والبؤس، مقابل انتشار “الكباريهات” وماركات الألبسة العالمية التي يعد شراء قطعة منها بمثابة الحلم لآلاف السوريين.
ومع ذلك تجد “معارضة الداخل” في بشار الأسد، الرجل”المنقذ” من التقسيم، حيث يقول رئيس وفد “معارضة حميميم” إليان مسعد، في 23 نيسان الماضي، خروج الرئيس السوري بشار الأسد، سيؤدي إلى تقسيم سوريا بين الأطراف المتصارعة.
ولادة “سوريا المفيدة”
قد تمهد جملة المظاهر الاجتماعية هذه لبروز وإظهار ماتم تداوله إعلاميًا عن أن “سوريا المفيدة” التي تديرها حكومة النظام السوري، وتستقبل الوفود العالمية على أرضها، وتدعو للاستثمار فيها، بحماية روسيّة كاملة من السماء وعلى الأرض، هي قيد التأسيس، وطال الحديث عنها وبدأت ترسخ لها تصريحات سياسيين عالمين.
وما هذه الظواهر الاجتماعية إلا “ترف” اجتماعي، يقول صحفي من دمشق، حرمت منه بقية سوريا الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تنهال عليها البراميل المتفجرة، فيهيم أهلها على وجوههم باحثين عن ملاذات آمنة داخل ما تبقى لهم من سوريا، وفي دول الجوار.
يدفع ترسيخ هذه “الدويلة” الممتدة على شكل شريط من دمشق إلى حمص ثم مدن الساحل وصولًا إلى حلب، إلى القول إن ما تسعى إليه قوىً سوريّة بارزة ومدعومة من الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لفرض دستور يحكم “كانتونات” الإدارة الذاتية ويعزز الفيدرالية شمال شرق سوريا، هو استمرارٌ لسياسة التقسيم.
وبينما ينظر جزء من السوريين إلى “الفيدرالية” على أنها انسلاخ عن الوطن الأم، يؤيدها آخرون ويعتبرونها من أنجح أنظمة الحكم في العالم.
هذا التوجه يحزّ في نفس أقليات أخرى على المطالبة بحكم ذاتي، ما قد يمهّد إلى التقسيم، وفق مراكز أبحاث وجمعيات بحثية مراقبة للوضع السوري عن كثب.
أولويات السكان في مناطق المعارضة
الغوطتان الشرقية والغربية، حي الوعر في حمص، محافظة إدلب، ريف درعا وأجزاء من المدينة، ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي، أجزاء من القنيطرة، جزء من شمال اللاذقية، أحياء في مدينة حلب وأريافها، هي مناطق تسيطر عليها قوات المعارضة السورية. لكنك هنا لا تجد نفس المظاهر في “سوريا المفيدة”، الوضع أصعب بكثير، “رغبة محمومة للناس بالبحث عن الطعام، والدواء، فلا ملاعب كرة قدم هنا ولا طوابير على البارات، هنا قنابل وحمم روسية وقذائف فوسفورية ومحرمة دوليًا”، كما يقول مواطن من ريف درعا لعنب بلدي.
رامي المسالمة، (39 عامًا) مواطن من درعا، يرى “أن النظام يريد أن يوصل صورة للعالم بأنه يحافظ على سوريا حديثة ناجحة، بينما تبقى مناطق الثوار فاشلة وبؤرة للفقر والمشكلات، وبالتالي يكسب تأييد العالم له ويتغاضون عن مجازره فلا أحد يريد سوريا مثل الصومال بسبب موقعها الإقليمي الهام”.
وحول تباين الخدمات ومستويات المعيشة بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة، يشير المسالمة إلى أن “الفجوة موجودة فعلًا والأولويات في كلا المنطقتين مختلفة، الأولوية في المناطق المحررة هي تجنب القصف وتأمين لقمة الخبز، بينما في المناطق المحتلة ربما تكون الأولوية تحسين الواقع الاقتصادي أو التعليمي، ولكن لا يمكن تحميلنا مسؤولية فشل مناطقنا، لأن النظام وتكثيف قصفه هو السبب. لو توقف لتحولت أولوياتنا نحو أمور أهم كإعادة الإعمار أو تنفيذ مشاريع اقتصادية خدمية”.
أكرم الزعبي، لا يتفق مع مواطنه المسالمة بوجهة النظر، فهو يعتقد أن الرسالة التي يرسلها النظام، هي لجمهور المعارضة أكثر من الخارج، “يريد أن يقول هذه مناطقي، وهذه مناطقكم، ادفعوا ثمن خروجكم عن حكمي”.
ويؤكد أن المشكلة هي ليست بين السكان سواء في مناطق المعارضة أو النظام، الناس تريد أن تعيش حياتها، فلا يمكن الطلب من المواطنين في مناطق سيطرة النظام البقاء في البيوت وعدم ممارسة حياتهم، ولا يمكن تحميل المواطنين في مناطق المعارضة سبب الخرارب والدمار الذي يسببه النظام، لأن ذلك وفق رأيه سيؤدي إلى “شرخ” بين السكان يؤسس لفكرة النظام بالتقسيم عبر زرع الأحقاد وبالتالي الكره بين السوريين على ضفتي مناطق السيطرة.
نهاية المعارضة المسلحة؟
يعزز التوجه نحو التقسيم الدول الداعمة للنظام السوري، رغم إعلانها أن وحدة سوريا “خط أحمر”، فطهران ترتاح له، لضمان مصالحها الحيوية والاستراتيجية في المنطقة ولكونه يضمن تنفيذ مشاريعها، كما أنه يحافظ بطبيعة الحال على المصالح الروسية في المياه الدافئة السورية وقاعدتها الرئيسية على المتوسط، في وجه حلف “ناتو”.
يرى المحلل السياسي الأمريكي، نيكولاس هيراس، في حلقة نقاش بحثية، نشرها في 29 تموز الجاري، إلى جانب عدد من الباحثين المتخصصين في الشرق الأوسط، اطلعت عنب بلدي عليها، أن سيطرة النظام السوري على حلب سيرفع من معنويات النخبة الموالية له، وسيعزز من اعتقادهم بإمكانية أن النظام يتجه نحو نصر نهائي على المعارضة.
وتشكل حلب ثاني أكبر مدن سوريا من حيث عدد السكان والسيطرة عليها يعني فرض السلطة على أبرز التكتلات البشرية في سوريا إلى جانب دمشق والساحل وحمص، وهو ما يعزّز فرضية “سوريا المفيدة” ويجعلها أقرب للتحقق.
في المقابل، لا تزال المعارضة تتمتع بثقلٍ ونفوذٍ واسعٍ في مناطق كإدلب، ولا يبدو أنها يمكن أن تتنازل عنها بسهولة.
سوريا السابقة لن تعود
ولعل الحالة التي وصلت إليها سوريا من “التشظي” و”الفوضى” على كافة الأصعدة، وضعت جون برينان، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “CIA”، في حيرة من أمرة، وصنّفته في خانة “عدم العلم” بما ستؤول إليه البلد، حينما صرح، السبت 30 تموز، أثناء منتدى الأمن المنعقد في مدينة أسبين بولاية كولورادو الأمريكية، بالقول “لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سوريا موحدة مرة أخرى”.
وعبر مدير وكالة المخابرات عن تشاؤمه بالمستقبل، ومرجحًا عدم عودة سوريا كما كانت، وهو ما يعدّ اعترافًا علنيًا نادرًا من قبل مسؤول أمريكي كبير وعلى دراية عميقة بمجريات الأمور في معظم بقاع العالم بأن خريطة سوريا لن تبقى على وضعها الذي كانت عليه قبل خمس سنوات.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :