على امتداد ثلاثة أيام، ناقش وزراء دفاع ثلاثين دولة الخطط والمقترحات المطلوبة لتسريع عملية القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في العراق وسورية. وقد استضافت قاعدة أندروز الجوية في الولايات المتحدة حشداً غفيراً يزيد تعداده على الألف خبير ومستشار، رافقوا الوزراء بغرض الحماية الأمنية وتقديم مقررات تتعلق بمكافحة الإرهاب.
افتتح الاجتماعات وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر بإلقاء خطاب مسهب استعرض خلاله المراحل الإيجابية التي خبرها التحالف الدولي أثناء مقاومة هذه الجماعات المتطرفة. وحدد في كلمته أهداف الاجتماعات المتواصلة بثلاثة: أولاً – تدمير التنظيم في العراق وسورية، مع تجفيف منابع الإرهاب في مختلف أوكار المساندة والدعم.
ثانياً – التركيز على النصر العسكري داخل الملاذات الآمنة لزعماء «داعش» في الموصل والرقة، الأمر الذي يقطع الإمدادات اللوجستية، ويعزل منظمات التنسيق.
ثالثاً – العمل المتواصل لوقف التهديد، وحماية مواطني التحالف الدولي، وتنظيف سائر الأوطان من الخلايا النائمة التي يستعملها «داعش» لزعزعة أمن الشعوب، مثلما فعل في فرنسا وبلجيكا وليبيا وتونس ومالي والنيجر وأفغانستان وتركيا.
واعترف وزير الدفاع الأميركي بأن بلاده باشرت تقديم المساعدات الضرورية، وأن الرئيس باراك أوباما نفذ المقررات التي اتخذت في مؤتمر بروكسل (شباط – فبراير) الماضي، حول أهمية دعم القوات العراقية لاستعادة السيطرة على الموصل.
ممثل فرنسا في المؤتمر نقل رسالة الرئيس فرانسوا هولاند الذي تعهد برفع مستوى المشاركة من طريق تقديم أسلحة ثقيلة للقوات العراقية مع الطاقم المولج بتشغيلها على جبهة القتال. كذلك أشار إلى عودة حاملة الطائرات شارل ديغول إلى المنطقة بهدف المشاركة في معركة التصفية بواسطة الطائرات الحربية (رافال).
واعترفت غالبية المشاركين في مؤتمر الإعداد أن فرنسا نالت النصيب الأكبر من إرهاب تنظيم «داعش»، إن كان في العاصمة باريس… أم في المدينة الصيفية نيس التي شهدت في «يوم الباستيل» (14 تموز – يوليو) ما لم يشهده باستيل الثورة الفرنسية. ذلك أن الشاب التونسي الأصل محمد لحويجي بوهلال استخدم شاحنة تزن 19 طناً لسحل 84 سائحاً وطفلاً ومتفرجاً.
والثابت أن الغارات الجوية التي تشنها القوات الفرنسية الخاصة على مواقع «داعش» لا تستهدف العراق وسورية فقط، وإنما تعدتها لتصل الى ليبيا ومالي والنيجر.
ممثل بلجيكا تطرق إلى وصف الظروف الصعبة التي تمر بها بلاده. وتحدث مطولاً عن تماسك الجاليتين «الوالون» و»الفلامون» في كسر حاجز المخاوف التي أحدثتها في نفوس المواطنين هجمات بروكسيل (آذار – مارس الماضي). وقد حصدت في حينه 32 قتيلاً و300 جريح.
وكان من الطبيعي أن تترك مجزرة نيس في نفوس البلجيكيين أثراً بالغاً بحكم عامل الجيرة مع فرنسا. لذلك استعدت السلطات الأمنية لمقاومة مختلف الاحتمالات، خصوصاً أثناء الاحتفالات بالعيد الوطني. وقد حذر الملك فيليب في كلمته من خطر الإرهابيين الذين يتلاعبون بمشاعر المواطنين والمهاجرين في شكل خاص.
وزير الخارجية الأميركية جون كيري قال إن مؤتمر قاعدة «أندروز» يأتي كتجمع إضافي لقمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي عُقدت في وارسو. وكان على جدول الأعمال بند يتعلق بزيادة الدعم في الحرب ضد تنظيم «داعش».
وأعلنت واشنطن أنها سترسل 560 جندياً إضافياً الى العراق. وبهذا يصبح عدد القوات الأميركية 4647 جندياً، ممَنْ استنفروا للمشاركة في الهجوم المرتقب على الموصل.
ويفاخر أبو بكر البغدادي أنه تمكن من السيطرة على الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، في صيف 2014. وهو حالياً يستخدمها كمقر رئيسي له بالتناوب مع مركز الرقة في سورية.
يتردد في هذا السياق أن عملية التحرير من نفوذ «داعش» ستقتصر على العراق حالياً، بانتظار تحقيق توافق أميركي – روسي حول مستقبل النظام السوري.
وقد سافر جون كيري إلى موسكو للمرة الرابعة هذه السنة على أمل إقناع الرئيس فلاديمير بوتين بالموقف الأميركي. وهو موقف لم يسلم من انتقاد مبعوث الأمم المتحدة ستيفن دي مستورا، الذي اعترف بأن مهمته تبدو مستحيلة على ضوء الخلاف الأميركي – الروسي. كل هذا بسبب رفض بوتين ممارسة أي ضغط على الرئيس بشار الأسد الذي يعتبر كل المنظمات المقاتلة «إرهابية». في حين يصنف دي مستورا «داعش» و»جبهة النصرة» في عداد القوى الإرهابية التي تستحق العقاب. وبما أنه ليس لدى المبعوث الأممي أي سلطة لإقناع واشنطن وموسكو بأهمية التوصل إلى تفاهم، لذلك قرر تأخير المفاوضات لعل الظروف تسمح بتقارب الموقفين الروسي والأميركي.
ومن هذا المنظور، تبدو أزمة «داعش» في العراق مختلفة عن أزمته في سورية. والسبب أن الانتصار على «الدولة الإسلامية» في العراق يزيل عن كاهل رئيس الحكومة حيدر العبادي عبئاً ثقيلاً يسمح له بإعادة بناء الدولة. وعلى عكس الأزمة في سورية، لأن الانتصار على «داعش» لا يعني انتهاء الحرب الأهلية التي تورطت في إشعالها فصائل المعارضة المقدَّر عددها بمئة فصيل. ومن أهمها: 18 فصيلاً شيعياً تابعاً لإيران، ثم «حزب الله»، و»قوات الدفاع الوطني» المحسوبة على نظام الأسد. إضافة إلى «وحدات حماية الشعب» الخاصة بالأحزاب الكردية. وبين أشرسها: تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة».
يعترف دي مستورا في أحاديثه الخاصة بأن «داعش» خسر مناطق كان يسيطر عليها في سورية، ولكن هذه الخسارة لم تؤثر في قدرته على محاصرة حلب ودمشق، كما أنها لم تؤثر في محاولاته المتكررة في تطويق اللاذقية ومخيم اليرموك للاجئين. ويُستدَل من هذا التداخل أن الحرب ضد «داعش» تُعتبر حرباً دولية. بينما الحرب بين النظام وستين فصيلاً معارضاً تُعتبر أزمة سياسية داخلية.
يتوقع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي نزوح آلاف العائلات من مدينة الموصل التي يقارب عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة. لذلك طلب من وزارة الهجرة الاستعداد لاستقبال الحشود الهاربة، بحيث لا تتكرر مأساة الفلوجة.
وفي الوقت ذاته، قابلته قوى شيعية باعتراض شديد يتعلق بمشاركة قوات أميركية وبريطانية وفرنسية في معركة تحرير الموصل. وهدد مقتدى الصدر بأن هذه القوات الغريبة ستكون هدفاً لأنصاره، لأنها في اعتقاده قوات احتلال وليست قوات تحرير. ورداً على هذه الاعتراضات، أكد سعد الحديثي، الناطق الرسمي، بأن مهمة القوات الأجنبية ستكون استشارية فقط.
الاعتراض الآخر الذي أطلقه مقتدى الصدر يتعلق بآلاف المنشورات التي تلقيها طائرات التحالف الدولي على مدينة الموصل مبشرة الأهالي بقرب تحريرها من سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي. وفي تعليق ساخر قال: اقتسام جلد الدب قبل اصطياده… أو محاولة تسلق الجبل قبل الوصول إليه.
ويرى مقتدى الصدر أن ردود فعل الخلايا النائمة لـ «داعش» في الخارج استيقظت فجأة مع اقتراب معركة تحرير الموصل. وأكد أيضاً أن الانتصار في معركة تحرير الفلوجة أوقع مئات الضحايا في بنغلادش وبغداد ومطار إسطنبول والسعودية والقاع اللبنانية.
الصحف الفرنسية حملت على منتقدي المشاركة، لأن غارات دول التحالف قتلت 5100 «داعشي» خلال 22 شهراً، وفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان». وبما أن العراق لا يستخدم طائرات حربية، وبما أن تنظيم «داعش» يملك صواريخ مضادة للطائرات – بدليل أنه أسقط خمس طائرات في سورية – فإن مشاركة القوات الأجنبية تصبح مطلباً عسكرياً مُلحاً.
وختمت الصحف الفرنسية اعتراضها بالتذكير أن المدافع الثقيلة التي ستصل إلى بغداد قريباً، مع طاقم تشغيلها، سيكون لها الدور الأول في تحرير الموصل.
ويبدو أن القيادة المركزية لتنظيم «الدولة الإسلامية» استشعرت خطر الاستعدادات القائمة لطردها من «عاصمتها»، عبر معركة مفصلية شبيهة بمعركة النورماندي، لذلك استنفرت مسبقاً خلاياها النائمة في أوروبا. وكان من حصيلتها افتعال أربع عمليات اغتيال وانتحار في ألمانيا.
وانسجاماً مع أجواء القتل التي نشرها «داعش» في العالم، أقدم مريض على محاولة قتل طبيبه قرب برلين ثم انتحر. كما تحمس مريض في مأوى المعاقين في اليابان، وأردى 19 شخصاً وجرح 25 أثناء نومهم.
وبلغت عمليات تنظيم «داعش» ذروتها الإرهابية بإرسال عنصرَيْن أقدما على ذبح كاهن فرنسي يُدعى جاك هامل (84 سنة) وإصابة راهبة بجروح. كذلك حاول «داعش» التذكير بأهمية دوره في المنطقة من طريق استهداف تظاهرة سلمية لأقلية الهزارة الشيعية في كابول، ما أسفر عن مقتل أكثر من 60 مواطناً وجرح 210.
وكان من الطبيعي أن تُحدث هذه الخسارات البشرية المتفاقمة محاولات يائسة لتبرير هذه العمليات الإرهابية، أو تفسير دوافعها العميقة. وكان من نتائج تلك المحاولات صدور سلسلة تحليلات ودراسات، رأيت أن أجتزىء منها إثنتين للأهمية:
الدراسة الأولى تحيل الأمر على تقرير تشليكوت الذي وضع المسؤولية كاملة على رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير بالتحالف مع صديقه الأميركي الرئيس جورج بوش الابن. وعليه يرى المشتركون في الدراسة أن اختلاق الأكاذيب لتمرير عملية الغزو، وإضفاء الشرعية الملفقة عليها، كانا السبب في ولادة منظمة مناهضة للاستعمار الجديد. وربما انحرفت عن مسارها الأول بقيادة ضباط جيش صدام حسين، لتستقطب كل المعارضين في دول العالم ممن أتقنوا فنون الذبح والحرق والسحل. والعلاج من هذه الآفة يستوجب محاكمة بلير وبوش ومختلف المسؤولين العراقيين الذين تآمروا لتنفيذ هذه الجريمة الكبرى لعل ذلك يرضي المتضررين.
الدراسة الثانية تضع الملامة على الولايات المتحدة لأنها ركزت على تفكيك الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي ألغى الضوابط وتوازنات الرعب، وفتح أبواب النقمة لجماعات الجهاد الإسلامي.
صحيح أن المعارضة العالمية كانت ممثلة بمنظمات صغيرة مثل «بادر ماينهوف» الألمانية، ومنظمة «الألوية الحمراء» الإيطالية، و»الجيش الأحمر» الياباني، وكارلوس الفينزويلي… ولكن الصحيح أيضاً أن الإسلام السياسي كان يُعبَّر عنه بواسطة دول نظامية مثل مصر (عبدالناصر) وأندونيسيا (سوكارنو) وباكستان (علي بوتو)، إضافة الى الدور البارز الذي لعبته «منظمة المؤتمر الإسلامي». من هنا يرى هؤلاء المحللون أن غياب الاتحاد السوفياتي ترك فراغاً سياسياً كبيراً من الصعب أن تملأه مناورات فلاديمير بوتين!