قد تكون الحالة التي وصلت إليها مؤسسة الطيران العربية السورية من “البؤس” هي الأشد، وهو ما لم تصل إليه أي مؤسسة نقل عامة سوريّة منذ الاستقلال، وهنا لا نقصد شركات النقل البري بل الطيران الحكومي والخاص والذي بدأت سوريا تعرفه بعد العام 2005 عندما فتح المجال للنقل الجوي الخاص إلى جانب السورية للطيران.
وعلى عكس مسيرة تطور الشركات والمؤسسات الاقتصادية، بقيت مؤسسة الطيران العربية السورية تسير بالعكس، فبعد استقلال سوريا العام 1946 أعلن رسميًا عن تأسيس “شركة الطيران العربية السورية”، وبدأت عملها بطائرتين مروحيتين طراز “سيسنامستير” وسيرت رحلاتها إلى حلب والقامشلي ودير الزور. لكنها وبعد 71 عامًا لا تزال “مكانك راوح”، فلا ازداد عديد طائراتها ولا توسعت محطاتها وبقيت كما لو أنها تأسست للتو، بل إن كثيرين يعتبرون أنها كانت من أفضل شركات الطيران في العالم خلال القرن العشرين بعد تأسيس الجمهورية السورية، لكونها كانت من أوائل الشركات التي سيرت رحلات طويلة وصلت إلى أمريكا اللاتينية وأوروبا (مدريد ولندن واسطنبول) فضلًا عن الدول العربية.
في عام 1957، بلغ عدد طائرات المؤسسة من طراز “دي سي 6” أربع طائرات إلى أن اندمجت مع شركة مصر للطيران خلال الوحدة مع مصر 1958، وصار اسمها شركة الطيران العربية المتحدة. وبعد الانفصال وتسلم نظام الأسد للحكم في سوريا أصبح اسمها “مؤسسة الطيران العربية السورية” وبدأت تدخل تحديثات على أنظمتها التشغيلة وتسعى لتوسيع وجهاتها لتشمل محطات جديدة.
وبين العام 1990 و1995 دعّم أسطول المؤسسة بثلاث طائرات من طراز “بوينغ 727″، وفي عام 1999 ضم أسطول السورية ست طائرات جديدة من طراز آير باص أيه 320، لكن لماذا انخفض أسطول المؤسسة واقتصر على طائرتين واحدة قيد التشغيل وأخرى بحاجة إلى تعمير؟ بعد أن طيّرت السورية بين الأعوام 1970 و1989 طائرة “سوبر كرافيل”، التي تعد الأكثر أمانًا في العالم في تلك المرحلة.
قد يعزو البعض “الترهل” والوضع “المأساوي” الذي وصلت إليه المؤسسة والتي تعد رابحة 100%، إلى الوضع السياسي الذي تعيشه سوريا، وما تصفه الرواية الرسمية بـ “التآمر الغربي الأمريكي بالتحديد”، لجهة فرض عقوبات عليها منذ العام 2004، ما حرم المؤسسة من قطع التبديل اللازمة للصيانة، ومنع مشغلات الطيران ومعامل التصنيع من التعامل معها خشية العقوبات، وهذا كله لغاية العام 2011. لكن بعد اندلاع الثورة تعمقت جراح المؤسسة التي تشغل نحو 2325 عاملًا بين إداريين وفنيي صيانة وطيارين.
الغوص بعمق في ملفات المؤسسة التي يقول مديرها العام الحالي، مصعب أرسلان، للتلفزيون السوري إنها “رابحة وتعود أرباحها إلى الحكومة السورية وليس للمؤسسة”، يكشف عن خفايا فساد وروتين وبيروقراطية ومركزية شديدة تعيشها معظم مؤسسات الدولة السورية، ما أدى إلى زيادة معاناة المؤسسة وموظفيها وعلى رأسهم الطيارون والمضيفون وهما عصبها الرئيسي.
ففي الوقت الذي تعتبر فيه المؤسسة بحاجة ماسة إلى قطع الغيار والمحركات لتسيير طائرتها، اطلعت عنب بلدي على مناقصات خاصة تطلب فيها للمرة الثانية إجراء عروض أسعار داخلي بالظرف المختوم لشراء مليون قطعة جبنة مثلثات تاريخ بتاريخ 12 تموز 2016، ومناقصة أخرى، للمرة الرابعة، عن رغبتها بطلب عروض أسعار داخلي لشراء أربعة آلاف كيلو غرام فطر، وكذلك 25 ألف كيلو فروج مسحب، وهو ما دعا أحد المعلقين للقول الأولى بالمؤسسة أن تؤمن القطع لتطيّر طائرتها بدلًا من جلب معدات الضيافة، لكن لعقوبات أمريكا وأوروبا كلام آخر.
مع اندلاع الثورة وفرض العقوبات العربية والغربية والأمريكية على النظام السوري، ضاقت الأجواء على طيارات المؤسسة التي كانت حوالي سبع طائرات تطير إلى 48 وجهة عالمية واقتصرت بعد ذلك على 11 وجهة، ثم استقرت حاليًا على وجهات إلى مدن القاهرة وعمّان والجزائر والخرطوم والنجف ودبي والرياض.
هنا بدأ الطيارون بالتفكير بالبدائل، وراحوا ويدرسون بإمعان العروض التي تتقدم لهم من خارج الحدود، ولكون هؤلاء من الكفاءات المرغوبة بشدة ومن المتأثرين بالحرب، ونظرًا لصعوبة الأوضاع المادية وتدهور القيمة الشرائية لليرة، بدأ يظهر نزيف الكفاءات وبدؤوا يهاجرون إلى دول شتى وأبرز وجهاتهم دول الخليج العربي، حيث فرص العمل في شركات طيران حكومية وخاصة وبرواتب تبلغ عشرة أضعاف ما يتقاضونه في مؤسسة الطيران السورية. فكانت النتيجة تسرب نحو 30% من طياريي المؤسسة ومضيفيها، وفق مديرها العام مصعب أرسلان.
يعتبر تسرب الطيارين المدنيين من أبرز المخاطر التي تتهدد ما تبقى من مؤسسة الطيران الحكومية، وقد يبدو هذا في صالح شركات الطيران الخاصة، التي تتمدد وتأخذ حصة من السوق التي كانت تشغلها “السورية للطيران”، لصالح شركات “أجنحة الشام” و”فلاي داماس” وغيرها.
ويقدر مدير المؤسسة عدد الطيارين المتسربين لصالح شركات خارجية بنحو 35 طيار لـ “أسباب اقتصادية”، فقد كان راتب الطيار قبل الحرب سبعة آلاف دولار وحاليًا أصبح راتبه بسبب تغير سعر الصرف ألفي دولار. وفي هذه الأثناء يبلغ راتب الطيار السوري العامل في شركات خارجية والمتسرب من المؤسسة نحو 15 ألف دولار، ويرى المدير العام أنها “خبرات كبيرة” ومشهود لها، ولا يعتبر أن هناك مشكلة في توفر الطيارين لحد الآن.
جرس إنذار
“يجب ألا تموت مؤسسة الطيران”، كتب أحد المهندسيين المتخصصين في قطاع النقل الجوي هذه العبارة على صفحة مؤسسة الطيران العربية السورية في “فيس بوك”، وكانت هذه العبارة بمثابة جرس إنذار للعاملين في المؤسسة وللسوريين عمومًا لإشعارهم بخطورة الوضع الذي أضحت عليه إحدى أهم مؤسسات النقل العام في سوريا، إن لم تكن الأهم على الإطلاق. إذ شهدت هذه المؤسسة وخلال السنوات الخمس الماضية ظروفًا عصيبة أدت إلى تشويه صورتها في أذهان السوريين حتى باتوا يعتبرون طائرات السورية عبارة عن باص “هوب هوب” يطير بالهواء، وتمتد معاناتهم معها إلى مكاتب الحجز والازدحام وخاصة على المقاطع الداخلية، وفي مكاتبها المتبقية حول العالم، حيث الرشاوى وتأخير مواعيد الإنطلاق بسبب الأعطال المتكررة في الطائرة الوحيدة المتبقية. وباتت سمعتها مقرونة بسمعة النظام السوري، إذ أنه وبناء على مراسلات مع دول عربية عديدة أخبرتهم باستعدادها لتسيير رحلات إليها، كشفت المراسلات أن هذه الدول لم ترد على رد المؤسسة سواء بالنفي أو الإيجاب.
ترهل إداري وفساد.. ولا مجيب
وجّه أحد المسافرين سؤالًا إلى صفحة مؤسسة الطيران في “فيس بوك”، يسأل عن “الرحلة المتجهة من دمشق إلى الدوحة فجر الأحد 3 تموز الجاري، نحن عم نستنا هالرحلة لإنو حاجزين من الدوحة على دمشق.. الرجاااااااااء الرد”. وكان من حسن حظه أن أحد كوادر المؤسسة رد عليه وأخبره بتعليق على منشوره أن الرحلة تأجلت لمدة ثماني ساعات، ولو لم يسأل المسافر لكان مضطرًا لقضاء ثماني ساعات في قاعة الانتظار وفي أروقة المطار ريثما تقلع طائرته.
ويعاجل المسافر محمد حسون بالسؤال “انشالله الرحلة للي طالعة اليوم من دمشق عالدوحة الساعة 12 ما رح تتأخر، نحن مستنين رحلتنا لأنو من الدوحة عالشام عالساعة 3 الفجر”.
وتسأل سونيا بكر “الرحلة الي التغت مبارح من الكويت لدمشق الساعة 18:00، متى الرحلة البديلة لو سمحتوا الرد بسرعة على الخطوط السورية للطيران”.. ليبقى سؤالها معلقًا دون إجابة.
ثم يكتب المسافر، كريم رزوق، “لم أتلقى ردًا…حاولت الاتصال مرارًا.. دون جواب…طائرتي من الجزائر نحو دمشق، بتاريخ 12/7/2016 هل ما زالت على موعدها؟ أفيدونا؟”.
أما المسافر حافظ سلوم، فيسرد قصة على صفحته في “فيس بوك” يبدو أنه من الصعب تصديقها، وذلك عندما طارت ابنته إلى موسكو قبل حقائبها التي بقيت في صالات المغادرة مع حقائب مسافري الرحلة دمشق – موسكو، في 1 تشرين الأول 2015.
ويوضح سلوم “يا عيب الشوم عليهم، بنتي سافرت إلى موسكو وفوجئت هي وأغلب المسافرين بأن حقائبهم لا زالت في مطار دمشق، علمًا أن ابنتي تدرس في مدينة تبعد 1200 كم عن موسكو وتكت الطائرة يبلغ 200 دولار، ذهابًا وإيابًا من موسكو الي ستافرابول، فتصوروا حجم المعاناة المادية والجسدية والنفسية، علمًا أنها لأول مرة في حياتها تسافر خارج البلاد ولا تعرف لغة روسية ولا يوجد أحد تعتمد عليه.. وكأن شيئًا لم يكن عند شركتنا المحترمة”.
ارتفاع الأسعار “بسبب الإقبال”
وفي البحث عن إجابات لهذه المشكلات التي تقع فيها طائرة السورية الوحيدة، قال عدد من مكاتب وكلاء السفر في دمشق لعنب بلدي إن “هناك طلب شديد على السفر على المقاطع الداخلية لشركة الطيران السورية، وخاصة بين دمشق والقامشلي نظرًا لانقطاع الطرق البرية”.
ويشير موظف في مكتب سفريات في منطقة الحجاز بدمشق، إلى أن الطلب الشديد على السفر الداخلي “أربك” مؤسسة الطيران التي لم تعتد من قبل مثل هذا الضغط، ونظرًا لخسارة المؤسسة لكامل أسطولها واقتصاره على طائرة واحدة فقط.
ولم يمنع ارتفاع الأسعار على الخطوط الداخلية من إقبال المواطنين على حجز بطاقات السفر، وتشير قائمة الأسعار لتذاكر السفر على متن السورية للطيران، والتي حصلت عليها عنب بلدي، إلى ارتفاع بمقدار 10 أضعاف مقارنة مع العام 2011.
يبلغ سعر التذكرة الواحدة بين دمشق والقامشلي 12300 ليرة، ودمشق– اللاذقية 11300 ليرة، ودمشق- حلب 14300 ليرة، في حين لم يكن سعرها بتجاوز ألفي ليرة.
وإلى جانب معاناة مؤسسة الطيران، تستمر معاناة الموطنين الباحثين عن تنقلات داخلية وخارجية في ظروف أفضل تخفف عنهم ويلات الحرب، لكن الأمور يبدو أنها في غير صالحهم إذ لا تزال العقوبات على شركة الطيران الرسمية مستمرة، ولا زال صوت الرصاص يملأ الأجواء ويمنع المشغلين العرب والأجانب من القدوم إلى مطار دمشق وبالتالي يتيحون الفرصة للسوريين بركوب طائرة بديلة عن السورية، إلى أن يتحسن وضعها وتصبح ناقلًا وطنيًا يستعد لمواكبة فترة سوريا ما بعد الحرب.