عمر عبد المجيد
إلى الغرب من داريا يطل جبل الشيخ بثلجه، فيعطي لداريا جوًا لطيفًا وهؤاءً عليلًا في الصيف، وخاصة في الليل، وبردًا قاسيًا في الشتاء، شتاء داريا يشبه شتاء المسيح، ورغم قسوته كان حميميًا. إلى الشمال الشرقي من داريا يطل جبل قاسيون، فيعطيها رونقًا خاصًا، حين تنظر إلى قاسيون من داريا تشعر بأن هذا الجبل راس في الأرض لحماية دمشق، فينتابك شعور تحسبه في البداية مخايلًا، بأن داريا تحمي الاثنين، دمشق والجبل.
في الحقيقة بحثت كثيرًا لأعرف من أين جاءني هذا الشعور المخايل، فجاءني الجواب على شعوري ذاك –وأنا لست من أهل داريا-، حيث تأكد لي أنه ليس شعورًا مخايلًا إنما هو حقيقة واقعة، فحين جاء خالد بن الوليد لفتح دمشق أقام معسكره في داريا، وبعدما تم الفتح اتجه إلى حمص تاركًا قسمًا كبيرًا من جنوده في داريا لحماية مدينة دمشق وجبلها. داخل كل “داراني” هذا الشعور، لكنه لا يظهره، إما تواضعًا منه أو لعدم معرفة هذه المعلومة، لكنه يعيش في داخله. داخل كل “داراني” خالد بن الوليد. في الثورة ظهر هذا الشعور على حقيقته، فهبت داريا دفاعًا عن دمشق وجبلها قاسيون.
كانت داريا تحمي كل من يحكم دمشق، ففيها العسكرة وفيها المعسكر، إلا أن هذا النظام، حاصرها من الأرض وأطبق عليها من الجو ببراميله وصواريخه، ومع ذلك لم يستطع بعد أكثر من أربع سنوات ان يكسر إرادتها. هو يعرف خطورتها، فقطع آلاف أشجار الصبار، وأقام بدلًا عنها كتلًا إسمنتية، سماها منطقة المزة، لتفصل بينها وبين دمشق. كل من يريد أن يأخذ دمشق وجب عليه أن يأخذ داريا أولًا. علاقة داريا مع دمشق المدينة جغرافيًا وعسكريًا علاقة مهمة وخطيرة، ولو قدّر للنظام الأسدي أن ينهار فإنه سينهار من جهة داريا، وهو –أي النظام- يعرف هذه الخاصية عن المدينة.
الغريب الذي يسكن داريا -وأنا منهم- ويتعرف على أهلها ويساكنهم جيرانًا له وجارًا لهم، ويكون لديه أصدقاء من أهل حمص، سوف يلاحظ التشابه الكبير بين لهجتي المدينتين، وذلك يرجع لاستقرار قسم من جيش خالد لحماية دمشق في داريا، والقسم الآخر ذهب معه إلى حمص ليفتحها ويستقر معه فيها.
لقد كان في جيش خالد جنود من القبائل اليمنية –خولان وعنس– وغيرهما، ومعروف عن اليمنيين أنهم أشداء في القتال، وهذا السبب الرئيسي في صمود أهل داريا وأهل حمص في قتالهم النظام الأسدي، (أن الشجاعة تورث كما يورث لون العينين). ومن بين العوائل العريقة في داريا عائلة الخولاني، وعلى ما اعتقد أن السمح بن مالك الخولاني مدفون في داريا، وهو جدهم الأكبر، الذي يرجع إلى مدينة خولان باليمن.
أهل داريا يشبهون خالد بن الوليد، شجعان مثله، تواقون للشهادة، لكنها لا تأتيهم من فرط شجاعتهم، يخافهم الموت ولا يخافونه، صبورون لا يقتلهم جوع أو عطش، متواضعون لا يملؤون الدنيا صراخًا بإنجازاتهم، متواضعون كخالد بن الوليد، فحين عزل من قيادة الجيش، رجع جنديًا عاديًا في الجيش الذي كان يقوده.
أهل داريا يشبهونها، فمثلًا حين تكون درجة الحرارة في دمشق المدينة 30 مئوية، تكون في داريا 22 مئوية، وهم كذلك حين يكون الغضب مستعر بالناس، يكونون هادئين وكأنهم الثلج، وليس ذلك فحسب، بل إنهم يروحون عنك تعب السنين، بسطاء لدرجة أنك تحسبهم أقل ذكاءً منك، إلا أن ذكاءهم تكتشفه من خلال الكلام معهم، إنهم أذكياء بالفطرة، تحسبهم عنيدين فتكتشف بعد ذلك أنهم صبورون حتى يكتشفوا الحقيقة، لتكتشف بعد ذلك عمقهم.
أهل داريا يشبهون بساتينها ومزروعاتها، طازجة، طيبة المذاق، يانعة، إنهم يشبهون العنب الداراني كثيرًا، يشبهون العنب الأبيض بنقائهم، ويشبهون العنب الأحمر بغيرتهم، عندما أفكر بالعلاقة بين الإنسان والنبات أتساءل: هل تؤثر النباتات فينا وبأخلاقنا؟ كنت أجيب نفسي: الجواب عند أهل داريا.
داريا.. المدينة المنبسطة السهلة تضاريسيًا، تشعر أنها منقادة، طيعة، لكنها تفاجئك بعد أن تمشي في شوارعها بأنها ليست كذلك، صحيح أنه لا وجود لتعقيدات جغرافية تربك ماشيها وراكبها، إلا أنها صلبة بانبساطها واضحة بعزتها، جغرافيتها بسيطة مثل أهلها، وأهلها واضحون مثل جغرافيتها، لكنهم أشداء وكأن الجبال والوديان داخل نفوس أهالي داريا وثوارها.
داريا المدينة الهادئة والوديعة، رغم كل هذا الصخب والضجيج، المصاحب لصواريخ الفيل والبراميل المتفجرة، تبقى هادئة ووديعة كما كانت، لولا اهتزاز وجدانها الإنساني والأخلاقي والاجتماعي. عندما قامت الثورة في سوريا في آذار عام 2011، كانت سباقة لنصرة درعا وأطفالها والدخول في الثورة وفي الصفوف الإمامية منها ضد النظام الأسدي.