هزَّ القارة العجوز بداية الشهر الحالي خبر انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي كان مفاجئًا لمعظم التوقعات داخل وخارج بريطانيا، إذ جاءت نتائج الاستفتاء مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد مضي أكثر من 65 عامًا على تأسيسه وأكثر من 43 عامًا على وجود بريطانيا فيه.
لماذا صوت الناخب البريطاني لصالح الانسحاب؟
زادت ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا مخاوف البريطانيين، فتدفق مئات الآلاف من المهاجرين، المنحدرين من قوميات وثقافات وأديان مختلفة، إلى بلادهم لا ينسجم أبدًا وأمنهم القومي، خصوصًا بعد أحداث الشغب التي قام بها السود في توتنهام صيف 2011، والتي كادت تودي بالبلاد إلى حرب أهلية وصدامات دموية.
هذا على صعيد الهجرة الخارجية، لكن خطرًا آخر أقلق الشارع البريطاني وهو الهجرة داخل دول الاتحاد الأوروبي. حيث استفاد مواطنو دول أوروبا الشرقية من اتفاقية “الشنغن”، التي تعفيهم من تأشيرات الدخول وتسمح لهم بحرية التنقل داخل دول الاتحاد الأوروبي.
زادت هذه الظاهرة من تدفق المهاجرين من شرق أوروبا، الغارقة في الديون والتي تعاني الفقر والعجز الاقتصادي، إلى بريطانيا البلد المستقر والمزدهر اقتصاديًا.
وإذا علمنا أن عددًا غير قليل من هؤلاء المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي سابقًا ومن المنحدرين من أصول روسية، يصبح الخطر أكبر على الأمن القومي البريطاني.
هناك أسباب عديدة أيضًا دفعت الناخب البريطاني للتصويت مع الانسحاب، أهم هذه الأسباب هو الحفاظ على الأمن القومي البريطاني وإعادة أمجاد بريطانيا العظمى.
شعر البريطانيون بعد كل هذه السنين أن وجودهم في الاتحاد الأوروبي قلص من دورهم العالمي، لصالح بروز قوى تصدرت المشهد الأوروبي على أكتاف البريطانيين، ففرنسا وألمانيا اليوم تلعبان أدوارًا كبيرة على مستوى العالم مستفيدتان من وجود هذا الاتحاد الذي يضم امبراطورية عظمى مثل بريطانيا.
مخطئٌ من يعتقد أن الإنكليز لا يطمحون أن تعود أمجاد بريطانيا العظمى إلى الواجهة، فالمواطن الإنكليزي إلى الآن لا يزال يرى نفسه أعلى درجة من أي قومية أخرى ويفتخر أن امبراطوريته كانت الشمس لا تغيب عن أراضيها. زاد تفكير البريطانيين بقوميتهم عندما وجدوا أبناء القوميات الأوروبية الأخرى يعلو شأنهم وباتت بلادهم تستقطب كبار زعماء العالم، حيث تتعمد فرنسا أن تجمع في عيدها الوطني ما تستطيع جمعه من رؤساء وأمراء وملوك، مموهة هذا باجتماعات ومؤتمرات تعرف باريس مسبقًا عدم جدواها، لكن تصر على هذه الطريقة لجمع هؤلاء القادة لمشاركتها في عيدها الوطني كما حصل في الاتحاد من أجل المتوسط عام 2008.
يرى الإنكليز أن عودة أمجادهم لا يمكن أن تتم طالما أن بريطانيا عضو في الاتحاد الأوروبي، لذلك فأول خطوة يجب أن تتخذ هي الخروج من هذا الاتحاد لإعادة ترتيب البيت الداخلي في بريطانيا، التي تنبهت عام 2014 إلى خطر كبير يهدد أمنها القومي، ألا وهو احتمال استقلال استكتلندا عنها، عندما صوت 45 % من الاسكتلنديين مع الاستقلال عن بريطانيا.
فيما يخص أمجاد بريطانيا العظمى أتكلم هنا عن الإنكليز فقط. أما باقي دول المملكة المتحدة لا ترى بالضرورة ما تراه إنكلترا. فالشعب الاسكتلندي من أكثر شعوب العالم اعتزازًا بهويته وقوميته، وناضل ودفع الكثير من الدماء في سبيل نيل حريته واستقلاله، كما أن الشعب الإيرلندي لا يقل فخرًا بقوميته عن الاسكتلنديين. وهذا ما انعكس على نتائج الاستفتاء داخل دول المملكة فمعظم الشعب الاسكتلندي صوت للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، وكذلك كانت نتائج التصويت في إيرلندا الشمالية.
مع ازدياد حركات الانفصال في أوروبا والعالم المتزامنة مع الجو الديمقراطي والسلمي الذي يسود أوروبا، يرى الشعب الاسكتلندي اليوم أنّ الأوان قد حان لتكون اسكتلندا دولة مستقلة، وأن استثمار هذه المعطيات فرصة قد لا تتكرر لاحقًا.
طرح عام 2014 استفتاء عام في اسكتلندا لخروجها من الاتحاد البريطاني، لكنه لم يحقق الأغلبية المطلوبة لنجاحه، لكنه بنفس الوقت نبه البريطانيين أن 45% من الشعب الاسكتلندي يؤيد الانفصال.
إن نسبة 45% التي صوتت للانفصال عن بريطانيا لم تعد اليوم هي ذاتها، ففي استطلاع للرأي، نشرته صحيفة “صندي تايمز” البريطانية، أظهرت النتائج أن 60% من الاسكتلنديين يؤيدون الانفصال عن بريطانيا بعد قرار الأخيرة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وهذا ما صرحت به رئيسة وزراء اسكتلندا، نيكولا ستيرجن، وقالت إن من المحتمل إجراء استفتاء جديد بشأن الاستقلال عن بريطانيا.
المواطن الاسكتلندي لن يقبل أن تقرر إنكلترا مصيره وأن تتخذ قرارات ضد مصلحته. هذا المواطن، الذي عاش نعيم الانتفاح في الاتحاد الأوروبي والازدهار الاقتصادي وحرية التنقل، لن يقبل أن يعود لينغلق على نفسه في شبه جزيرته المعزولة عن العالم كله، والتي يجاوره فيها شعبًا لا يرى منه إلا مواطنًا من الدرجة الثانية. يدعمهم في هذا الاتحاد الأوروبي الناقم على بريطانيا والراغب في معاقبتها كي تكون عبرة لأي دولة تسول لها نفسها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لاحقًا.
لذلك فإن أكبر عقبة ستواجه اسكتلندا في حال استقلت هي مسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي، كدولة مستقلة، وهذا الأمر الذي يتطلب مدة أقلها سنتان من الروتين حتى يتم قبول أي دولة جديدة، ولكن أعتقد أن تسهيلات كثيرة ستقدم لاسكتلندا في حال انفصلت عن بريطانيا وتقدمت بطلب انضمام للاتحاد الأوروبي، لعدة أسباب أهمها أن اسكتلندا كانت بالأساس ضمن الاتحاد كجزء من بريطانيا، وأن الاتحاد سيسهل انضمامها كي يعيد الثقة لدوله، وأن خروج بريطانيا سيكون كارثيًا عليها لا على الاتحاد، لذلك لابد من معاقبة بريطانيا كي لا تتكر هذه الحوادث مع دول أخرى في المستقبل.
حتى مشكلة العملة الجديدة لاسكتلندا، فأعتقد أن الاتحاد الأوروبي سيقدم تسهيلات كثيرة ليكون اليورو عملتها المقبلة بدل الجنيه الاسترليني، الذي ترفض بريطانيا أن تتعامل به اسكتلندا في حال انفصلت عنها.
ماذا لو انسحبت اسكتلندا من الاتحاد البريطاني؟
في حال تم الاستفتاء واستقلت اسكتلندا عن بريطانيا سيكون وقعه كارثيًا على أحلام بريطانيا في استعادة أمجاد امبراطوريتها العظمى، وستكون بريطانيا قد اتخذت أكثر قرار خاطئ في تاريخها، فهي انسحبت من الاتحاد الأوروبي لتعيد أمجاد امبراطوريتها ولكن النتائج ستكون عكس ما خطط له الإنكليز.
تبلغ مساحة اسكتلندا 87 ألف كيلومتر مربع، وتشكل ثلث مساحة الاتحاد البريطاني البالغ مساحته 243 ألف كيلومتر مربع، وباستقلالها سيتقلص حجم بريطانيا من الناحية الجغرافية إلى 165 كيلومتر مربع، أي أن بريطانيا ستخسر مساحة جغرافية كبيرة بعد أن كانت الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أراضيها.
يبلغ عدد سكان اسكتلندا حوالي 5 مليون نسمة، وبالمقارنة مع المساحة الجغرافية نرى أن هذا العدد قليل جدًا، لذلك ستقوم اسكتلندا باستقبال عدد كبير من المهاجرين إليها الأمر الذي تخشاه بريطانيا، والذي كان أحد أكبر أسباب خروجها من الاتحاد الأوروبي، لذلك ستضطر بريطانيا لضبط حدودها مع اسكتلندا وهذا الأمر مكلف جدًا لبريطانيا على الصعيد الاقتصادي.
أبرز التحديات التي ستواجه بريطانيا على الصعيد الاقتصادي أيضًا، في حال استقلت اسكتلندا، هي الثروات. فخسارة بريطانيا لبحر الشمال الواقع شمال شرق اسكتلندا والغني بالثروات الباطنية وأهمها النفط والغاز، البحر الذي تعتمد عليه بريطانيا لتأمين ثلثي احتياجاتها من النفط.
ناهيك عن القواعد العسكرية البريطانية الموجودة في اسكتلندا، وأهمها قاعدة فاسلين البحرية التي ترسو فيها غواصات ترايدنت النووية، فقد ظهرت أصوات عديدة في اسكتلندا تنادي بإزالة هذه القواعد من أراضيها، الأمر الذي سيكون مكلفًا جدًا لبريطانيا.
كما أن استقلال اسكتلندا سيحرم بريطانيا من الممر المائي، الواقع بين اسكتلندا وغرين لاند مرورًا بإيسلاندا، وهذا الممر مهم جدًا لدولة عظمى مثل بريطانيا على الصعيد العسكري والاستراتيجي. كما أن استقلال اسكتلندا سيحرم بريطانيا من العمق الاستراتيجي لها من جهة الشمال.
وعلى نفس الصعيد سيفتح استقلال اسكتلندا الباب لدول أخرى للاستقلال، فإيرلندا الشمالية أيضًا صوّت أغلب سكانها للبقاء في الاتحاد الأوروبي، لكن أصوات الإنكليز حسمت الأمر لصالح الخروج منه، وهذا خالف أيضًا مصالح وتطلعات الشعب الإيرلندي الذي بدأت تعلو في أوساطه أصوات تطالب بالاستقلال عن بريطانيا، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك كحزب “شين فين” المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي، والذي طالب بإعادة توحيد الجزيرة الإيرلندية التي أنهكها الصراع الطائفي والقومي على مدى عقود وانتهى باتفاق الجمعة العظيمة عام 1998.
حتى مقاطعة جبل طارق الواقعة جنوب إسبانيا والتابعة للاتحاد البريطاني، فقد صوّت غالبية سكانها للبقاء في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيجعل منها قضية دولية بعد فترة قصيرة، خصوصًا مع مطالبة إسبانيا بها منذ عقود، وخسارة بريطانيا لها تعني خسارتها لواحدٍ من أهم الممرات البحرية في العالم، وهذا الأمر الذي تعلم بريطانيا جيدًا مدى خطورته على الصعيد الاستراتيجي والجيوسياسي.
مع كل هذه المعطيات والسيناريوهات المحتملة، نرى أن بريطانيا ستواجه مستقبلًا تحديات كثيرة لا يمكن معالجتها بسهولة، فهي تستطيع أن تعطي اسكتلندا وإيرلندا الشمالية مزيدًا من الاستقلالية في الشأن الداخلي وتعويضهما ماليًا لسد الاحتياجات الناتجة عن آثار خروج بريطانيا من الاتحاد، لكن كيف وبريطانيا الآن بأسوء حالاتها ماليًا واقتصاديًا، والتي سيتبعها أزمات مالية متتابعة ناجمة عن هروب المستثمرين، وانكماش اقتصادي كبير ناتج عن عدم الاستقرار في بريطانيا، فيما لو بدأت الخطوات العملية لإعادة إجراء استكتلندا استفتاء الاستقلال.
بريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي ليست كقبله، ومن المحتمل أن تخسر مكانتها العالمية فيما لو بدأت تتفكك من الداخل. فهي الآن لا تملك أي من المقومات التي كانت تمتلكها أيام كانت لا تغيب عنها الشمس، فلا خليجًا تحكمه ولا هندًا ولا طاقات بشرية إفريقية ولا ثروات عراقية. كل ما تملكه بريطانيا اليوم هو سيادة فخرية على كندا وأستراليا ودول “الكومنولث”، وهذه ليست مقومات دولة تمتلك قرار الفيتو في مجلس الأمن، مع بروز قوىً إقليمية جديدة في العالم متضررة من حال العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنه من سيطرة الدول المنتصرة على قراره، وتطالب بمقعد دائم لها في مجلس الأمن، كألمانيا والهند والبرازيل واليابان وغيرها من الدول الصناعية الكبرى في العالم.
فهل ستتغير اللعبة العالمية فيما لو حصل ذلك؟ وهل سنرى دول جديدة تملك حق الفيتو في مجلس الأمن؟
لا أعتقد أن ذلك سيتم فالصين لن تسمح لليابان والهند بالوصول لعضوية دائمة في مجلس الأمن. كذلك الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح للبرازيل بالوصول للفيتو ولا فرنسا تسمح لألمانيا أن تحقق ما ترنو إليه.
كل ما ذكرت سابقًا هو مجرد سيناريوهات محتملة مبنية على تحليلات وتوقعات، لما قرأته في الجغرافيا السياسية للمملكة المتحدة وأوروبا، ولا أرى حصولها أمرًا مستبعدًا في عالم يعيش اللااستقرار منذ قرون.
فهل ستغير بريطانيا رأيها في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي؟