فجرت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عاطفة غير معلنة تجاه رجب طيب إردوغان، كانت الأوضح بين سُنة لبنان وسوريا. لكن يمكن المجازفة بالقول إنها عاطفة شملت سُنة المشرق العربي عامة. فجأة صارت «تركيا الصخرة السنية التي يتكئون عليها، وأخافهم احتمال انهيارها» كما عبر أحد الأصدقاء في رسالة نصية وصلتني. في الغالب الأعم، من تعاطفوا بحرارة مع إردوغان خارج المشرق، كان دافعهم هو الرابط الآيديولوجي الإخواني، ثم، وبشكل أقل حرارة بكثير، من استندوا إلى أن الرجل منتخب ديمقراطيًا، ولا يجوز تاليًا تأييد انقلاب ضده.
الفارق الجوهري، أن العاطفة تجاه إردوغان في المشرق، حيث ساحات الحرب الأهلية السنية الشيعية الأعنف، صدرت عن هوية سنية عامة لا هوية حزبية إخوانية أو قيمية ديمقراطية.
خلال أقل من سنتين، بين التاسع من مارس (آذار) 2003 تاريخ سقوط العاصمة العراقية بغداد، واغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير (شباط) 2005، أفرغ المشرق العربي من ثلاث زعامات سنية، تختلف في خلفياتها ومشاريعها ومضامينها. توفي (أو قتل؟) الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2004. وكان سبقه سقوط بغداد واعتقال الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في 13 ديسمبر (كانون الأول) عام 2003، وإعدامه لاحقًا في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2006. واغتيل الحريري.
وضعت هذه الأحداث، المشرق أمام فراغ زعامي سني كبير، كان في حالة صدَّام قد بدأ بإلغاء نفسه قبل أن تلغيه معادلة الحرب الأميركية. وترافق الإلغاء مع تصاعد النفوذ المذهبي الإيراني من بوابتي العراق ولبنان، أساسًا، وعبر الاستثمار في خطف ورقة المقاومة لبنانيًا وفلسطينيًا، ثم لاحقًا عبر الحرب السورية التي شهدت احتلال «حزب الله» والميليشيات الشيعية الإيرانية والعراقية والأفغانية لعاصمة الأمويين!!
ليس مفتعلاً هذا التأطير المذهبي لطبيعة الصراع، بل هو اعتراف بمعانيه المضمرة والحقيقية، وبوابة ضرورية لفهم تعلق الغريق السني المشرقي بقشة الزعامة الإردوغانية التركية، أيًا تكن الحدود الواقعية لهذه الزعامة أو حدودها المتخيلة، وهي الأوسع والأكبر.
سُنة المشرق طائفة مقطوعة الرأس. الملك عبد الله الثاني صاحب عبارة «الهلال الشيعي» لصحيفة «واشنطن بوست»، لا يملك الرغبة أو ربما القدرة على توسيع زعامته خارج القيادة الدقيقة للأردن. رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الحريري، مكبل بأزمات عامة وخاصة لا حصر لها، لا تزال تمنع انبثاق الحريرية بنسخة مستعادة، شكلت في الماضي قيادة جامعة لسُنة لبنان وسوريا.
خارج الاثنين، فراغ زعامي مديد، لا تعوضه، حتى الآن، الحيوية الخليجية المستجدة بقيادة السعودية، لأسباب تتعلق بالأولويات الاستراتيجية الخليجية الضاغطة في اليمن والبحرين!
في العراق لم ينتج الاجتماع السني شخصية أو حزبا أو مكونًا سنيًا استطاع الموازنة مع المكون الشيعي. بل يمكن القول، مع بعض التشاؤم، إن الحرب وما تلاها ألغت عمليًا المكون الاجتماعي السني في العراق! نحن أمام محافظات سنية هجرت عن بكرة أبيها ومدن وحواضر سنية أفرغت من سكانها، فيما يقبع الشطر العراقي السني الأكبر في الموصل تحت وصاية كيان «داعش»! ومع الانكفاء العربي عن العراق، كانت تركيا هي المحجة والإردوغانية هي الحاضنة إما للمكونات الحزبية الدينية، كنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي أو الأمين العام لهيئة علماء المسلمين الشيخ حارث الضاري الذي توفي للمناسبة في إسطنبول، وإما للسنية السياسية ممثلة بأسامة النجيفي وآخرين وإما للمكون العرقي كتركمان الشمال العراقي!
والمتخيل العراقي من الثراء بحيث يسمح بفانتازيا الاتكاء على الزعامة التركية في مواجهة إيران. يحلم العراقي بسليمان قانوني جديد يهزم الصفويين ويعيد بناء جامع الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان كما حصل قبل نحو خمسة قرون ردًا على سياسات مستمرة إلى اليوم!
ومثلهم يحلم السوريون بسليم أول وبمعركة مرج دابق جديدة في حلب تهزم «مماليك العصر» المتحالفين مع الدولة الصفوية!
ربما يكون السوريون السنة الأكثر وجاهة في عاطفتهم الإردوغانية، بالاستناد إلى موقف إردوغان من نظام بشار الأسد، واستقبال تركيا لنحو ثلاثة ملايين نازح سوري يعيشون في المدن التركية وعلى الحدود التركية السورية ضمن شروط معقولة تحفظ كرامتهم الإنسانية. كما لكون تركيا معبرًا استراتيجيًا للسلاح والمؤن، أكان ما يصل منها للثوار أو لـ«داعش»! لكن بين الأسباب أيضًا، السبب الذي يجمعهم مع بقية سُنة المشرق، غياب شخصية أو مرجعية سنية تمثل الثورة والمستقبل غير جبهة النصرة!
أما فلسطين فحدث ولا حرج!
بهذا المعنى فالإردوغانية عندنا هي بدل عن زعامة سنية مشرقية مفقودة. المفارقة أن دول المشرق تغرق في التفتت والبحث عن زعامات خارج حدودها في زمن صعود الهويات الوطنية الحادة في العالم على تنوع مصادرها وأفكارها. من أميركا دونالد ترامب، إلى بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي وصعود الأحزاب القومية في أوروبا، إلى منطقتنا التي تشهد تطور هويات وطنية أكثر صلابة (السعودية والإمارات نموذجين).
قد يكون لبنان المكان الأخير لاحتمال ولادة شيء شبيه، يُصدر لاحقًا إلى بقية المشرق! لكن هذا يتطلب أمرين:
إقلاع اللبنانيين عن وهم الصراع بين علمي إيران وتركيا، والعودة إلى العلم اللبناني وحيدًا، متحالفًا مع نظام المصلحة العربية.
واستراتيجية عربية لاستعادة توازن المشرق، يجب ألا تؤخرها أكثر أولويات العمق الاستراتيجي الملتهب في اليمن والبحرين.
الأمران بعيدان حتى الآن، والأرجح أننا نتهيأ لجنازة كبيرة لتشييع المشرق العربي، وما التعلق اليائس بالإردوغانية إلا هلوسات ساعة الاحتضار!