عنب بلدي – العدد 70 – الأحد 23-6-2013
بشير – حماه
لا زالت تلك الحادثة التي جرت معنا في أيام الثورة الأولى تجري صورها أمامي عندما قام أحد الشبان الغاضبين بمحاولة اقتلاع عمود يحمل إشارة مرورية بحجة أنها ملك للنظام الذي يمنعنا من الخروج في المظاهرات، ويجابهنا بالرصاص والبنادق ويقتل من أهلنا الكثير، قلنا له أنا ورفاقي لا تفعل ذلك فإن هذه الأملاك لنا في النهاية، قال «هي للدولة وما لازم تبقى بمكانها».
تعاني المجتمعات العربية بشكل عام من غياب لحالة ضبط الأخلاق الاجتماعية في رقعة الحياه العامة وتؤسس لتلك الشذوذيّة الأخلاقية حسب قول المفكر عبد الوهّاب المسيري غياب عملية الضبط الاجتماعي من قبل الأسرة القريبة أو الجيرة التي لا تمانع في أن تترك حيزًا لا بأس به للأفراد ليمارسوا شكلًا من أشكال التفرد يكمن بداخله التسامح والتساهل في أمور كثيرة.
إضافة إلى ذلك تأتي مؤسسات الدولة المختلفة التي تتطلب دومًا الولاء لها فقط وليس لأحد سواها وهي مؤسسات لا شخصية ومجردة تحاول تنميط الفرد حسب قوالب معدّة مسبقًا، فتقضي على فرديته وتمحو الكثير من صفاته حتى تقبل بتوظيفه في أرجائها.. الأمر الذي يولد ردّة فعل غير أخلاقية تجاه تلك المؤسسات نفسها التي اضطهدت ذلك الفرد وطمست شخصه وروحه وقيمه، مما يبعث على التمرد المادي عليها والانتقام منها عند أول فرصة سانحة.
لذلك نجد أن الفرد التقليدي يظل على فرديته النابعة من ولاءاته التقليدية لنفسه ولأسرته أو عشيرته ويرفض الانصياع للقوانين العامة التي تتجاوز نطاق تلك الولاءات والقيم الأخلاقية التقليدية والتي لا تنطبق على حياته الخاصة فقط إنما تنطبق على رقعة الحياه العامة التي تكون عند ذلك الفرد التقليدي مباحة ولا قداسة لها.
فالقمامة مثلًا في المجتمعات صاحبة الهوة بين العام والخاص توضع على حافة الأرصفة البعيدة عن باب المنزل بأمتار لأن التعاليم الأسرية اقتصرت على النظافة داخل إطار المنزل الذي يضم الأسرة فقطـ علمًا أن النبي (ص) قال: جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا.. كل الأرض وليس المنزل فقط.
كذلك تجد المصلين في صلاة الجمعة يصطفون صفًا واحدًا ويحرصون على أن يكونوا صفًا مستقيمًا ويخرجون بشكل هادئ من المسجد، ولكن بعد خطوات منه يقف بائع الخضرة فترى الازدحام وعدم احترام الدور والدوس على كل القيم الاجتماعية في سبيل المصلحة الشخصية وتجاهل تلك المعاني المكتسبة من الوقوف صفًا واحدًا في صلاة الجماعة.
تحضر أيضًا صورة لبعض العناصر من الثوار عندما يقومون باقتحام مكان ما بعد تحريره من قبضة النظام، فتبدأ عمليات الانتقام من الأثاث وحرق المكان ربما وتكسير محتوياته ونهب المقدرات التي يحويها المركز المُقتحم والتي تكون في كثير من الأحيان معدات مدنية بحتة لا تتعلق بنظام ولا بمعارضة إنما بمصلحة بلد كامل، والمفارقة هي بتبريرات تلك الأفعال التي تُعزى غالبًا لمنطق رد الشيء بمثله، فالنظام يقوم بحرق البيوت وسرقة أملاك المواطنين الأبرياء وتكسير الأثاث للبيوت، ونحن نريد أن نفعل مثله وأن نقابله بالمثل في تناقض عجيب مع القيم الثورية التي خرجنا لإحيائها.
لا يمكن تفسير هذا التناقض البيّن في السلوك بين البيئة الخاصة لكل منّا والبيئة العامّة التي يعيش فيها إلّا من خلال إدراك المفهوم التقليدي للقيم الأخلاقية السائدة في مجتمعاتنا والتي تؤكد حسب ما هو مشاهد بوضوح على فاعلية القيم الأخلاقيّة في مجال الحياه الخاصة وحسب، أما الحياة العامة فهي تقع خارج أي قيم أخلاقية للأسف.
إن استمر المجتمع على هذه الصورة المنقسمة بين القيم الخاصة والتأكيد عليها، والقيم العامة وتجاهلها فإنّه سيشكّل عبئًا على كل من يريد التغيير الاجتماعي، فهل يمكننا أن ندخل عصر النهضة وعصر الحرية وننفض عن أنفسنا غبار الهمجية واللاأخلاق وسلوك الأنظمة القمعية والتشبه بأفعال الطغاة؟ هل يمكن أن نقوم بكل ما من شأنه الحفاظ على تقاليدنا ومكتسباتنا الإيجابية من مجتمعنا دون الانزلاق للمزيد من الشذوذ الاجتماعي؟ هل يمكن أن ندخل المستقبل ومعنا ماضينا نحمله كهوية وذات تحررنا من اللحظة المباشرة وتحفظ لنا خصوصيتنا، وتساعدنا على أن نجد اتجاهنا لا كعبء يثقل كاهلنا؟ هذا ما علينا العمل عليه بجد لكي ندخل التغيير الحضاري من أوسع أبوابه.