مدينة افتراضية داخل قبو خصص مسبقًا ككراج السيارات لجأت إليه أكثر من سبعين عائلة معظمهم من مدينة داريا..
مدخل ضيق وخانق تفوح منه روائح الرطوبة والعفونة من شدة سوء التهوية، تكاد تشعرك بالغثيان. نزلنا الدرج الذي ما يزال قيد البناء بصعوبة، والأطفال متوزعون على عتباته مع أمهاتهم يأخذون جرعة من الهواء الذي بدأ يتضاءل شيئًا فشيئًا مع كثرة النازحين داخل القبو.. وجوه شاحبة، قاسية الملامح أصبحت جزءًا شخصيات قاطني القبو.
في داخل القبو رأينا العديد من «الخيم» كما أطلق عليها قاطنوها، تفصل العائلات عن بعضها بشراشف وحرامات، وداخل كل خيمة وسائد وفرش من القماش أو الاسفنج الرقيق وعلب من الكرتون يحفظون فيها ألبستهم وأمتعتهم، في بعض الخيم رأينا خزانة صغيرة وفي خيمة أخرى كان هناك سرير يفصل أصحاب الخيمة عن الرطوبة و الحجارة المتواجدة في اسمنت الأرضية.
أبو خالد رجل في الخمسينيات من عمره، قضى أيام نزوحه الأولى في أحد جوامع مدينة دمشق، وذلك قبل أن يدله أحد أصدقائه على القبو، يخبرنا أبو خالد وقد بدا عليه الإرهاق والتعب «لم أجد مكانًا لي ولعائلتي سوى هذه الخيمة»، ويكمل حديثه «لا يوجد استقلالية ولا أستطيع الخوض في حديث خاص مع عائلتي لأنه سيكون مسموعًا ومشتركًا مع الخيم المجاورة وأغلب الأحاديث نتبادلها بالهمس» ويتابع «وأيضًا لا نستطيع النوم بسبب الضجيج الدائم واختلاف مواقيت النوم لدى الناس حيث تختلف من عائلة لأخرى، فالصوت لا يهدأ بالقبو لا ليلًا ولا نهارًا، وعدا عن ذلك اختلاف طبائع الناس وظروفهم الصعبة التي تجعل الجو بعض الأحيان مشحونً ومتوترًا، فتنشأ بعض الخلافات بين الأهالي قبل أن تتداركها صاحبة القبو وتحلها»، ويختم أبو خالد متحسرًا «لك يا عمي النازح اذا ما في مصاري معو ليستأجر بيت وين مكانو الطبيعي؟!» ليجيب عن سؤاله بعد أن غرق بحزن صامت «في الخيم أو الشارع».
تلك العائلات لا تملك إلا بعض الذكريات التي حملتها معها لتواسيها وتخفف عنها آلام النزوح، فيجلس الأهالي كل ليلية يتحدثون عن ذكرياتهم التي تركوها في مدينتهم مجبرين، يضحكون تارة ويبكون ويتحسرون تارة أخرى على أحبة فقدوهم أو بيوت يحلمون بالعودة إليها.
هدى، لها وضع مختلف عن بقية العائلات، فهي نزحت مع طفليها دون زوجها والذي أعدم ميدانيًا في مجزرة داريا الكبرى، والتي راح ضحيتها ما يقارب الـ 800 شهيد. عندما دخلنا إلى خيمتها كانت طفلتها تجلس إلى جانبها تحيك الصوف، وراحت هدى تروي لينا قصتها باكية «لم أتخيل يومًا أن أصبح بلا مأوى، وبعد أن استشهد زوجي لم يبق لي أحد فأهل زوجي ما يزالون داخل المدينة وأخي الوحيد معتقل منذ ما يقارب السنة والنصف دون أن أسمع عنه خبر». ورغم وجودها في القبو منذ خمسة أشهر فإن هدى لم تستطع التكيف والعيش فيه… «كل يوم بضب غراضي وبقول بدي ارجع لأنه لا يوجد ذل أكثر من هذا الذل»، ثم تدمع عيناها وتسكت قليلًا قبل أن تتابع «لا أستطيع أن أؤمن لأطفالي مكانًا أفضل من هذا وأشعر بالحزن على أطفالي فطفلتي فقدت الكثير من الوزن بسبب سوء الوضع الصحي هنا» فتقاطعها ابنتها الصغيرة وتتكلم ببراءة الأطفال «أنا عم اشتغل بالصوف لأبيعها وساعد ماما بالمصروف».
أما رانيا المخطوبة منذ ثلاثة سنوات فقد قررت هي وخطيبها أن يتزوجا في القبو وأن لا يؤجلا عرسهما أكثر من ذلك، فأقامت النسوة لها احتفالًا بسيط وأحضرت لهما صاحب القبو فستان العرس والضيافة، وأقام الرجال عراضة صغيرة للعريس، ثم زفت العروس إلى خيمة زوجها داخل القبو.
تقول رانيا ابنة الثمانية عشر عامًا وفي صوتها حرقة: «آه على داريا لو أنني أستطيع العودة لها، صار عرسي منذ أسبوع ولم أشعر أنني عروس، لا طعم لأي شيء، لم تعد هناك فرحة نشعر بها، فمعظم عائلتي بين شهيد ومعتقل ومفقود، استشهدت أختي الصغيرة قبل نزوحنا حيث تم قنصها أمام أعيننا واستشهد ابن عمي قبل عرسي بأيام وابن خالتي معتقل، لم يعد للفرحة مكان في قلبي ..» ثم تكمل راينا وقد لمع الإصرار والتحدي في عينها «بدنا نعيش رغم كل الأوجاع والحياة بدها تستمر مو بإيدنا»
وخلال جولتنا بين الخيم أطلعتنا أم محمد وهي المشرفة على أوضاع الأهالي في القبو على تقسيم الأعمال بالقبو وعلى المشاريع النسائية التي تقام فيه، ورأينا مشغلًا للصوف، وأخبرتنا أم محمد أنهم ينوون تجهيز مطبخ لرمضان لكي تطبخ النساء فيه وتبيع منتوجاتها من الطبخ، ورأينا أيضًا حمامين وغرفة للغسيل فيها ثلاث غسالات، وأطلعتنا على برنامج الأعمال إذ تقوم كل أربع عائلات يوميًا بتنظيف القبو، ويتاح لكل عائلتين غسل ملابسهما والاستحمام كل أسبوع. كما رأينا داخل القبو بائعة تبيع الأطفال، وعند مدخل القبو يوجد بائع من أهالي القبو يقوم بصنع الفلافل وبيعه.
تحلم هذه العائلات يوميًا بالعودة إلى الديار التي أخرجوا منها، بعضهم يراه قريبًا وبعضهم يراه بعيدًا، لكن تساؤلًا كبيرًا لا يكاد يغادر وجوههم: كيف سنعود إلى بيوتنا، والدمار والخراب الذي لحق بمدننا كيف سنعيد إعماره؟!