محمد جغيف
يعود تاريخ الانقلابات في تركيا إلى العام 1960، وكان أول انقلاب عسكري في تاريخ تركيا على حكومة رئيس الوزراء عدنان مندريس، فمنذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1924 نُصب الجيش حارسًا للنظام الكمالي فضلًا عن تقنين وضعه في الحياة السياسية من خلال قانون المهمات الداخلية للجيش التركي الصادر عام 1935، إذ نصت المادة 34 منه أن (وظيفة الجيش هي حماية وصون الوطن التركي والجمهورية التركية) وهكذا أصبح الجيش مخوّلًا بحق التدخل لحماية وإنقاذ مبادئ الجمهورية التركية.
ظل حزب الشعب الجمهوري يحكم تركيا عبر المؤسس أتاتورك ثم خليفته عصمت إينونو، حتى قرر أحد رجال الحزب الانشقاق عنه وتأسيس حزب آخر، وكان الرجل هو عدنان مندريس، وأما الحزب الذي أسسه فكان يسمى بالحزب الديموقراطي الذي لم تمض بضعة أعوام حتى فاز بالانتخابات ووصل مندريس إلى السلطة عام 1950.
أعلن مندريس إعادة الأذان باللغة العربية، كما وعد، ثم سمح بإعادة قراءة القرآن الكريم باللغة العربية بدلًا من الاكتفاء بقراءة ترجمة معانيه باللغة التركية، كما سمح بافتتاح أول معهد لتدريس علوم الشريعة منذ عام 1923 إضافة إلى بعض مراكز تعليم القرآن الكريم، كما قام بحملة تنمية شاملة في تركيا شملت تطوير الزراعة وافتتاح المصانع وتشييد الطرقات والجسور والمدارس والجامعات وهي الإجراءات التي أسهمت في زيادة شعبيته بشكل ملحوظ.
وفي صباح 27 أيار عام 1960 تحرك الجيش التركي ليقوم بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، وسيطر على الحكم 38 ضابطًا برئاسة الجنرال جمال جورسيل، وأحال الانقلابيون 235 جنرالًا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، وتم إعلان الأحكام العرفية، وحاصرت الدبابات مبنى البرلمان وتم وقف نشاط الحزب الديموقراطي واعتقل رئيس الوزراء، عدنان مندريس، ورئيس الجمهورية، جلال بايار، مع عدد من الوزراء، وأرسلوا إلى السجن قبل أن يحكم عليهم بالإعدام في محاكمة صورية.
شهدت تركيا بعد إعدام مندريس عقدًا مضطربًا تميز بالركود الاقتصادي والاضطراب الأمني والسياسي، وقام الجناح اليساري بتنفيذ هجمات تفجيرية، وعمليات سرقة، واختطاف، ومنذ نهاية 1968، وعلى نحو متزايد خلال عامي 1969 و1970، كان يقابل العنف اليساري بعنف يميني متطرف، خاصة من منظمة “الذئاب الرمادية”، كما شهدت هذه الفترة عددًا من الاغتيالات السياسية.
وعلى إثر ذلك تمت الإطاحة بحكومة سليمان ديمريل، رئيس حزب العدالة، الذي وصل إلى السلطة عام 1965 وأعيد انتخابه عام 1969، وقد شهد عهده انشقاقات واضطرابات داخلية في حزبه، فانسحب 41 نائب برلماني من حزب العدالة وأسقطوا حكومة ديمريل الثانية عام 1969، فاضطر لتشكيل حكومة جديدة لكنها كانت هشة لم تصمد أمام الاضطربات في البلاد خاصة أوائل عام 1971 وقيام اليسار المسلح ومجموعات الطلاب بخطف جنود أمريكيين ومهاجمة المصالح الأمريكية، كما ظهر إلى الساحة حزب “النظام الوطني الإسلامي” الذى جاهر برفض مبادىء الجمهورية الكمالية، وهو الأمر الذى استفز قادة الجيش الذين اتهموا ديميريل بفقد السيطرة.
يعرف انقلاب 1971 عموما بـ”انقلاب المذكرة” حيث أرسل الجيش مذكرة عسكرية إلى سليمان ديميريل طالبه فيها بالتنحي، وعلى إثر قراءة بيان الجيش عبر الإذاعة فضّل ديميريل الاستقالة على المقاومة.
أعلنت الأحكام العرفية وتولى فريت ميلين رئاسة الوزراء في أبريل 1972، وأحدث تغييرًا بسيطًا وتبعه بعد عام نعيم تالو، الذي كانت وظيفته الرئيسية قيادة البلاد حتى الانتخابات، وفي أكتوبر 1973، فاز أجاويد، الذي كان قد تفوق على منافسه «إينونو» بتقلده زعامة حزب الشعب الجمهوري، في الانتخابات العامة التركية لعام 1973.
كان الانتصار الذي حققه أجاويد في الانتخابات البرلمانية عام 1973 هزيلًا، وعاشت البلاد حالة من الاضطرابات ومجيء حكومة وذهاب أخرى إلى العام 1980.
قام الجنرال كنعان إيفرين بقيادة انقلاب جديد في أيلول عام 1980، معلقًا الدستور ومعلنًا الأحكام العرفية، وتم حظر جميع الأحزاب وحلها وإصدار دستور جديد عام 1982، الذي وسع سلطات رئيس الجمهورية “العسكري”.
جاءت فاتورة انقلاب 1980 باهظة جدًا ودموية، وكانت محصلتها: 650 ألف معتقل، وأحكام بالإعدام على 517 شخص، وإعدام 50، وفصل 30 ألف من أعمالهم، وتجريد 14 ألف شخص من الجنسية التركية وترحيل 30 ألف آخرين ووفاة المئات في ظروف غامضة وتحت التعذيب وحبس عشرات الصحفيين ومنع أكثر من 900 فيلم.
نجح تورغوت أوزال في تأسيس حزبه والفوز في الانتخابات في غضون أقل من عام، ويوصف أوزال كليبرالي إسلامي نجح في تحسين علاقته بمؤسسات الدولة بما فيها الجيش، حاول أوزال أن يصنع لنفسه سياسة خاصة بعيدة عن العسكريين حيث نشط في عهده التعليم الديني وانتظمت معاهد الأئمة والخطباء والكليات الشرعية وسمح لطلاب المعاهد الدينية لأول مرة بالالتحاق بكليات الشرطة والأكاديميات العسكرية، وكذلك فتح عهده الباب أمام المصارف الإسلامية وظهرت مجموعات اقتصادية تابعة لجماعات دينية مختلفة استثمرت في مجالات التجارة والصناعة والصحة والإعلام والتعليم.
توفي تورغوت أوزال عام 1993 في ظروف غامضة (يتهم الجيش الآن باغتياله عبر السم مع مطالبات بإعادة تشريح جثته)، وفي عام 1995 وصل حزب الرفاه وحليفه الطريق القويم إلى السلطة ليصبح الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان رئيسًا للوزراء وهو الأمر الذي أغضب العلمانيين ودعاهم إلى تحريك الأذرع العسكرية ضد الحكومة المنتخبة.
في 28 شباط 1997 اجتمع مجلس الأمن القومي الذي قرر أنه يجب أن يتم وقف تجربة أربكان الآن وليس غدًا، عبر انقلاب لا تتدخل فيه الدبابات، وبالتالي فإنه استدعى أربكان وطلب منه التوقيع على مجموعة من الطلبات (18 طلب) التي رأى قيادات الجيش أنها يجب أن تتم من أجل المحافظة على النظام العلماني في تركيا الذي يحاول أربكان أن يغيره، كان الحوار واضحًا وصريحًا إما أن تقبل بهذه القرارات وتوقع عليها وإما أن ترحل.
ورغم قبول أربكان بطلبات العسكر إلا أن الانقلاب حدث بعد ثلاثة أشهر.
تم حظر حزب الرفاه بحكم قضائي وفقًا لقانون 1982 بتهمة السعي إلى تطبيق الشريعة وإقامة النظام الرجعي، وتم إيداع أربكان في السجن مع مجموعة من قادة حزبه منهم رجب طيب أردوغان وحرم بعضهم من العمل السياسى لمدة 5 إلى 10 سنوات.
وبوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، ظهر الصراع مع العسكر إلى العلن حيث شهدت تركيا سلسلة من التوقيفات والاستجوابات، طالت عددًا من كبار ضباط وقادة الجيش، على خلفية اتهامهم بتحضير انقلاب عسكري ضد الحكومة المنتخبة، وأصبح الصراع بين فريقين علماني وإسلامي، ثم دخل عنصر جديد إلى المعادلة بعد أن حصلت القطيعة بين الحزب وجماعة فتح الله غولن والتي أصبحت تعرف بالتنظيم الموازي وتتميز بتغلغلها في كل مؤسسات الدولة.
قاد أردوغان عملية استئصال للتنظيم الموازي، ومازالت مستمرة إلى الآن، وطالب أمريكا مرارًا وتكرارًا بتسليمه غولن المقيم في بنسلفانيا، إلى أن حدث الانقلاب الخامس في 15 تموز الذي يعتبر نتيجة للصراع الذي كان قائمًا، وأول انقلاب تفشله إرادة الشعب، وبناءً عليه يمكن أن نسميه انقلاب الشعب على الانقلاب.
يعد انقلاب 15 تموز 2016 انتصارًا لتركيا على الانقلابات، التي كانت كلما حدثت تدخل البلاد في فوضي عارمة وترجعها سنوات إلى الوراء، كما أثبت وعي الشعب التركي وتماسكه وحبه لوطنه وتمسكه بديمقراطيته ورفضه حكم العسكر، ووحد الأحزاب كلها.
كما أنه فتح الباب لمرحلة جديدة قد تمكن أردوغان من إقامة النظام الرئاسي، واستئصال ما عجز عن استئصاله من العسكر وممن ينتمون للتنظيم الموازي في كافة مؤسسات الدولة، وأهمها القضاء وقوى الأمن وبضربة واحدة.
وعليه يمكن القول إن عهد الانقلابات ولّى إلى غير رجعة في تركيا، وإن الديمقراطية خطت خطوة جديدة وازدادت قوة وترسخًا.