عمر قدور - الحياة
نعم، ستبدو نكتة فاقعة اتهام بشار الأسد آخر ثلاثة رؤساء أميركيين بنقص الخبرة السياسية، وقوله استطراداً أن شَغْل منصب وزير الخارجية أو مقعد في الكونغرس لسنوات لا يعني امتلاك صاحبه الخبرة، ما ينسحب برأيه على معظم رؤساء الولايات المتحدة. ذلك من دون أن يوضح، في حديثه لشبكة «إن بي سي» الأميركية الذي نشرت وكالة «سانا» نصه العربي في 14 تموز (يوليو) الجاري، ما هي المؤهلات اللازمة التي قُيّض له تحصيلها ليكون رئيساً ذا خبرة.
قبل هذا الحديث بأربعة أيام، نُقل عن بشار قوله أمام وفد برلماني أوروبي أن مشكلات الإرهاب واللجوء والتطرف التي تواجهها أوروبا اليوم ناجمة عن تبني قادتها سياسات لا تخدم مصلحة شعوبها، وأبرزها دعم الإرهاب في سورية. وتلك أيضاً كما هو معلوم لم تكن المرة الأولى التي ينتقص فيها من كفاءة مسؤولين غربيين، فقد سبق له كيل الألفاظ ذاتها في حق الرئيس الفرنسي أمام الإعلام الفرنسي، وفي حق رئيس الوزراء البريطاني في تصريحات إلى «بي بي سي». بل بلغ به الأمر أن قال، في مقابلة مع قناة «إس بي إس» الأسترالية، إن الساسة البريطانيين منفصلون عن الواقع بسبب قبولهم الاستفتاء على عضوية بلدهم في الاتحاد الأوروبي، مستطرداً: أسميهم في بعض الأحيان ساسة من الدرجة الثانية.
إذاً، في سياق متصل وممنهج، لا يكتفي بشار بانتقاد السياسة الغربية الخارجية أو اعتبارها خاطئة، هو يذهب إلى أصل النظام الغربي بدعوى سماحه لقليلي الخبرة بالوصول إلى أعلى المناصب، وحتى بدعوى عدم معرفة أولئك بمصالح شعوبهم، أو بالتنكر لها. أو بعبارة يتحرج من قولها علانية، العلة هي في الديموقراطية الغربية، وفي تلك الشعوب التي تنتخب قادة عديمي الكفاءة، أي في كون الشعوب الغربية على غرار الشعوب قاطبة لا تعي مصلحتها.
للوهلة الأولى، لا يظهر فارق بين بشار، الذي قيل الكثير عن دراسته في الغرب، وذاك الداعشي الذي ولد في الغرب، طالما أن الاثنين يحملان العداء ذاته للنظام الغربي وديموقراطيته. ولكن ربما يظهر الفارق إذ يمتلك الداعشي أرجحية أيديولوجية، ولو كانت قائمة على أصول لا تلائم العصر، بينما لا يمتلك بشار أية قيمة معيارية سوى تلك المتعينة بشخصه الذي يتخيل لفظاً، أو عن قناعة حقيقية، أنه الصواب المطلق.
أما وصف فوقية بشار بالبارانويا الشخصية فسيبقى قاصراً، أو على الأقل لا يفي بما يتلاءم مع موقعه، ومع توافد محطات إعلامية عالمية للتحدث إليه، وإن بادر بعض الصحافيين إثر تلك اللقاءات إلى وصفه بالمنفصل عن الواقع، أو تكررت أقوال هؤلاء الصحافيين على سبيل تبرئة الذمة. فاللقاءات التي تجريها مؤسسات إعلامية غربية، لا تُقدَّم أصلاً على سبيل الفرجة المنزّهة عن الأغراض السياسية، ولا يُقدّم صاحبها فقط لتأكيد انفصاله عن الواقع المرة تلو الأخرى. على الأقل، لا يُنظر إليه كصاحب طرفة على النحو الذي كان يُنظر فيه إلى القذافي، بل يؤخذ بجدية تامة بوصفه شخصاً قتل مئات الآلاف من السوريين.
في هذه اللقاءات الصحافية يرى بشار نفسه منتصراً، إذ يفسّرها كإشارات إلى قبول الغرب به على مضض، حيث يصعب عليه يقينه أن القبول به غير مبني على أدنى درجات الاحترام، بل ينص تماماً على القبول بالسيء لاستثماره في ضبط الأسوأ. رد الإهانة من وجهة نظره سيكون بإهانة النظام الغربي ككل، لا انتقاماً من مطالبة قادة الغرب برحيله سابقاً فحسب، وإنما انتقاماً من الغرب ككل الذي يحتقره ويقبل به في آن. الكراهية المتأصلة هنا لا تقل داعشية عن «داعش» نفسه، وفي معظم تصريحاته إلى وسائل الإعلام الغربية ثمة تماهٍ واضح بينه وبين «داعش» من خلال تهديد الغرب بخطر هذا التنظيم وقدراته.
البنية التي ينطلق منها بشار في تحقير الغرب مفهومة جيداً للسوريين، وهي لا تنطلق كما قد يُفهم ظاهراً من خطاب الممانعة المعادي للغرب. إنها تحديداً بنية الابن الذي وعى الحياة بلا ضوابط أو قيود أو محرّمات، البنية التي اعتادت استباحة أي آخر وأية قيمة نظرياً وعملياً. بنية الوريث هذه ترى في تحقير الآخرين شأناً معتاداً، ولا تميز من حيث المبدأ بين السوريين وغيرهم من الشعوب، ولا ترى في الديموقراطية تحديداً سوى دلالة على ضعف بنيوي في السلطة، قبل أن تتعين ضعفاً في مسؤولين يتناوبون عليها.
انطلاقاً من هذه البنية، لا يصح وصف مسؤولين أو صحافيين غربيين بشار بالانفصال عن الواقع، فما يُعرف بالبارانويا الفصامية تكون فاقدة الصلة كلياً بالواقع ومبنية فقط على الأوهام، بينما البارانويا في حالتنا وثيقة الارتباط بالواقع، فضلاً عن وعي الواقع بطريقة خاصة. بمعنى معرفة بشار الواقعية بعدم وجود خطر يهدده من غرب يحجم عن محاربته جدياً، وهذه المعرفة لا تدفعه بأية حال إلى التصالح مع الغرب على المستوى العميق، لأن المصالحة مع قيم الغرب تهدد موقعه أيضاً.
قبل ذلك ينبغي ألا يغيب عن الأذهان التخاذل الدولي إزاء إبادته السوريين، والذي لا يمكن إلا أن يصب في تعزيز أوهام القوة الذاتية. من القدرة على الإبادة التي لا يمتلكها الغرب يرسل بشار أهم رسالة في حديثه إلى شبكة «إن بي سي»، فهو يتحدث عن هزيمة مقاتلي «داعش» بحيث لا يتمكنون من العودة إلى الغرب، أي بقتلهم جميعاً، الأمر الذي لا يتجرأ أحد في الغرب على إعلانه بهذا الوضوح.
من المحتّم أن المسؤولين الغربيين الذين يعمد بشار إلى تحقيرهم لا يكترثون بأقواله، ولا تحركهم انفعالات ترى فيها انتقاصاً من الكرامة الشخصية يستدعي الرد، حتى وهو يقدّم لهم ولشعوبهم دروساً في السياسة. لكن النظرة المستخفة بأمثاله، والتي ترى فيه ضرراً محلياً يمكن قبوله بالمقارنة بإرهاب عابر للحدود، لن تثبت فعاليتها. فإذا نجح بشار وحلفاؤه في ابتزاز الغرب مرة، فلن يكون ثمة رادع لهم ولغيرهم عن تكرار الأمر، واعتباره قمة في فهم السياسة.
بشار الأسد معلّماً في السياسة
نعم، ستبدو نكتة فاقعة اتهام بشار الأسد آخر ثلاثة رؤساء أميركيين بنقص الخبرة السياسية، وقوله استطراداً أن شَغْل منصب وزير الخارجية أو مقعد في الكونغرس لسنوات لا يعني امتلاك صاحبه الخبرة، ما ينسحب برأيه على معظم رؤساء الولايات المتحدة. ذلك من دون أن يوضح، في حديثه لشبكة «إن بي سي» الأميركية الذي نشرت وكالة «سانا» نصه العربي في 14 تموز (يوليو) الجاري، ما هي المؤهلات اللازمة التي قُيّض له تحصيلها ليكون رئيساً ذا خبرة.
قبل هذا الحديث بأربعة أيام، نُقل عن بشار قوله أمام وفد برلماني أوروبي أن مشكلات الإرهاب واللجوء والتطرف التي تواجهها أوروبا اليوم ناجمة عن تبني قادتها سياسات لا تخدم مصلحة شعوبها، وأبرزها دعم الإرهاب في سورية. وتلك أيضاً كما هو معلوم لم تكن المرة الأولى التي ينتقص فيها من كفاءة مسؤولين غربيين، فقد سبق له كيل الألفاظ ذاتها في حق الرئيس الفرنسي أمام الإعلام الفرنسي، وفي حق رئيس الوزراء البريطاني في تصريحات إلى «بي بي سي». بل بلغ به الأمر أن قال، في مقابلة مع قناة «إس بي إس» الأسترالية، إن الساسة البريطانيين منفصلون عن الواقع بسبب قبولهم الاستفتاء على عضوية بلدهم في الاتحاد الأوروبي، مستطرداً: أسميهم في بعض الأحيان ساسة من الدرجة الثانية.
إذاً، في سياق متصل وممنهج، لا يكتفي بشار بانتقاد السياسة الغربية الخارجية أو اعتبارها خاطئة، هو يذهب إلى أصل النظام الغربي بدعوى سماحه لقليلي الخبرة بالوصول إلى أعلى المناصب، وحتى بدعوى عدم معرفة أولئك بمصالح شعوبهم، أو بالتنكر لها. أو بعبارة يتحرج من قولها علانية، العلة هي في الديموقراطية الغربية، وفي تلك الشعوب التي تنتخب قادة عديمي الكفاءة، أي في كون الشعوب الغربية على غرار الشعوب قاطبة لا تعي مصلحتها.
للوهلة الأولى، لا يظهر فارق بين بشار، الذي قيل الكثير عن دراسته في الغرب، وذاك الداعشي الذي ولد في الغرب، طالما أن الاثنين يحملان العداء ذاته للنظام الغربي وديموقراطيته. ولكن ربما يظهر الفارق إذ يمتلك الداعشي أرجحية أيديولوجية، ولو كانت قائمة على أصول لا تلائم العصر، بينما لا يمتلك بشار أية قيمة معيارية سوى تلك المتعينة بشخصه الذي يتخيل لفظاً، أو عن قناعة حقيقية، أنه الصواب المطلق.
أما وصف فوقية بشار بالبارانويا الشخصية فسيبقى قاصراً، أو على الأقل لا يفي بما يتلاءم مع موقعه، ومع توافد محطات إعلامية عالمية للتحدث إليه، وإن بادر بعض الصحافيين إثر تلك اللقاءات إلى وصفه بالمنفصل عن الواقع، أو تكررت أقوال هؤلاء الصحافيين على سبيل تبرئة الذمة. فاللقاءات التي تجريها مؤسسات إعلامية غربية، لا تُقدَّم أصلاً على سبيل الفرجة المنزّهة عن الأغراض السياسية، ولا يُقدّم صاحبها فقط لتأكيد انفصاله عن الواقع المرة تلو الأخرى. على الأقل، لا يُنظر إليه كصاحب طرفة على النحو الذي كان يُنظر فيه إلى القذافي، بل يؤخذ بجدية تامة بوصفه شخصاً قتل مئات الآلاف من السوريين.
في هذه اللقاءات الصحافية يرى بشار نفسه منتصراً، إذ يفسّرها كإشارات إلى قبول الغرب به على مضض، حيث يصعب عليه يقينه أن القبول به غير مبني على أدنى درجات الاحترام، بل ينص تماماً على القبول بالسيء لاستثماره في ضبط الأسوأ. رد الإهانة من وجهة نظره سيكون بإهانة النظام الغربي ككل، لا انتقاماً من مطالبة قادة الغرب برحيله سابقاً فحسب، وإنما انتقاماً من الغرب ككل الذي يحتقره ويقبل به في آن. الكراهية المتأصلة هنا لا تقل داعشية عن «داعش» نفسه، وفي معظم تصريحاته إلى وسائل الإعلام الغربية ثمة تماهٍ واضح بينه وبين «داعش» من خلال تهديد الغرب بخطر هذا التنظيم وقدراته.
البنية التي ينطلق منها بشار في تحقير الغرب مفهومة جيداً للسوريين، وهي لا تنطلق كما قد يُفهم ظاهراً من خطاب الممانعة المعادي للغرب. إنها تحديداً بنية الابن الذي وعى الحياة بلا ضوابط أو قيود أو محرّمات، البنية التي اعتادت استباحة أي آخر وأية قيمة نظرياً وعملياً. بنية الوريث هذه ترى في تحقير الآخرين شأناً معتاداً، ولا تميز من حيث المبدأ بين السوريين وغيرهم من الشعوب، ولا ترى في الديموقراطية تحديداً سوى دلالة على ضعف بنيوي في السلطة، قبل أن تتعين ضعفاً في مسؤولين يتناوبون عليها.
انطلاقاً من هذه البنية، لا يصح وصف مسؤولين أو صحافيين غربيين بشار بالانفصال عن الواقع، فما يُعرف بالبارانويا الفصامية تكون فاقدة الصلة كلياً بالواقع ومبنية فقط على الأوهام، بينما البارانويا في حالتنا وثيقة الارتباط بالواقع، فضلاً عن وعي الواقع بطريقة خاصة. بمعنى معرفة بشار الواقعية بعدم وجود خطر يهدده من غرب يحجم عن محاربته جدياً، وهذه المعرفة لا تدفعه بأية حال إلى التصالح مع الغرب على المستوى العميق، لأن المصالحة مع قيم الغرب تهدد موقعه أيضاً.
قبل ذلك ينبغي ألا يغيب عن الأذهان التخاذل الدولي إزاء إبادته السوريين، والذي لا يمكن إلا أن يصب في تعزيز أوهام القوة الذاتية. من القدرة على الإبادة التي لا يمتلكها الغرب يرسل بشار أهم رسالة في حديثه إلى شبكة «إن بي سي»، فهو يتحدث عن هزيمة مقاتلي «داعش» بحيث لا يتمكنون من العودة إلى الغرب، أي بقتلهم جميعاً، الأمر الذي لا يتجرأ أحد في الغرب على إعلانه بهذا الوضوح.
من المحتّم أن المسؤولين الغربيين الذين يعمد بشار إلى تحقيرهم لا يكترثون بأقواله، ولا تحركهم انفعالات ترى فيها انتقاصاً من الكرامة الشخصية يستدعي الرد، حتى وهو يقدّم لهم ولشعوبهم دروساً في السياسة. لكن النظرة المستخفة بأمثاله، والتي ترى فيه ضرراً محلياً يمكن قبوله بالمقارنة بإرهاب عابر للحدود، لن تثبت فعاليتها. فإذا نجح بشار وحلفاؤه في ابتزاز الغرب مرة، فلن يكون ثمة رادع لهم ولغيرهم عن تكرار الأمر، واعتباره قمة في فهم السياسة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :