وين المعاضمة.. وين رجالكم؟ .. أكيد عم يقاتلونا
بين أشتاتٍ ثلاثة.. لاجئ سوري يروي رحلة معاناته لعنب بلدي
حنين النقري – عنب بلدي
“هاتوا دفاتركم، الكتب، المجلات، كل ورقة بتشوفوها، ما بدي تبقى ورقة واحدة بهذا البيت”، يتشبث أحمد أكثر بدفتره رغم صراخ أبيه وجو الذعر في المنزل، يخفيه داخل قميصه لكنّ والده يلمح انتفاخًا في بطنه وينتزع الكنز منه، يضيفه لكومة تأكلها النار في أرض الديار، هكذا لم تفلح محاولاته لحماية عبارة “ممتاز حماك الله” التي كان يباهي فيها أقرانه.
أحمد نتوف شابّ سوري من مواليد معضمية الشام بريف دمشق عام 1979، عاش طفولته بين أحداث الثمانينيات ومطاردات الناشطين ضد الأسد الأب في سوريا، وبدأ ثلاثينيات عمره بالتمرد على الأسد الابن، فهل يضيع العمر حسرة بين طاغيتين؟
“وعيتُ على وجود منشورات معارضة في بيتنا وعلى أخبار اعتقالات واستشهاد أصدقاء أبي”، يقول أحمد، “كنتُ طفلًا عندما طلب والدي منا دفاتر وكتب المدرسة، حرق كل ما في البيت من أوراق بعد أن علم باعتقال أصدقائه مخافة أن يأتيه الدور، ولم يرغب بوجود دليل على نشاطاته السياسية في المنزل، ولكن ذلك لم يعفيه من الاستدعاء. وهكذا صار له ولإخوتي ملفات في فرع فلسطين مع منعِ من السفر، وهنا وُلدت بذرة الخوف الأولى لدي من النظام أمام ما شاهدته من بطشه”.
“يلي ما بيخاف من الله خاف منه“
“ككل السوريين شهدتُ مظاهرات آذار 2011 وما تلاها، في البداية لم يكن أهالي المعضمية يصيحون بإسقاط النظام، بل كانوا يقولون الشعب يريد حلّ الاستملاك، فالنظام يستملك 60% من أراضي المعضمية”، يروي أحمد ما عاينه بداية الثورة السورية، مؤكدًا أن شعارات إسقاط النظام ما لبثت أن علت مع قمع أجهزة الأمن للمتظاهرين بالرصاص الحيّ وحملات المداهمة والاعتقال.
“بعد مشاهداتي موت الناس واحدًا بعد الآخر، واستشهاد عدد كبير من أصدقائي، تسّلل الخوف إلى قلبي من نظام لا يتوانى عن فعل أي شي… النظام لا يخاف الله، ويلي ما بيخاف من الله خاف منو”.
دفع ذلك أحمد وعائلته إلى النزوح نحو جديدة عرطوز، في آب عام 2012 بعد اقتحام النظام السوري للمعضمية بالدبابات، وبقيت العائلة عدة أيام في منزل “على العضم”، إلا أن الجيش ما لبث أن اقتحم الجديدة أيضًا باحثًا عن أهل المعضمية “سمعنا بآذاننا صياح العساكر: وين المعاضمة.. وين المعاضمة”.
داخل خزان المياه
“هربتُ مسرعًا أنا وأخي إلى سقيفة الحمام، عند وصول العساكر وسماعنا أصوات أحذيتهم العسكرية تخبط الأبواب، لم يكن من مكان للاختباء سوى خزان مياه صغير بفتحة بالكاد يستطيع الشخص الدخول منها، دبرنا أنفسنا واختبأنا، ولحسن الحظ كان نصف الخزان فقط ممتلئًا بالماء ما ترك لنا فسحة للتنفس”. وهكذا اختبأ الشقيقان دون أي حركة، وينقل أحمد استغرابه حتى الآن من صبرهما حينها على هذه الحالة وبذاك الجو من الرعب، في شهر آب وحرارة الجو العالية “ونحن صائمون”.
“دخل الأمن المنزل وأصوات السباب والشتائم البذيئة تصل مسامعنا، لم يجدوا سوى نساء العائلة، عندما علم القناص أنهم من المعضمية صرخ بوجه والدتي: وين رجالكن.. أكيد عم يقاتلونا بالمعضمية”، يضيف الشاب “كانت والدتي تترجى الضابط وتبكي، انهارت زوجتي الحامل، ونحن نحبس أنفاسنا ونسمع كل هذا من مكاننا في خزان الماء، على مرأى أعين قنّاصين يفتشان المنزل بحثًا عن أي رجل، عن أي معضماني”.
“راجعين” توعّد القناصان الأهل، وتمركزا على سطح البناء نفسه ليمارسا مهمتها بقنص الناس، بحسب أحمد “بقينا نحن في مخبئنا خشية عودتهما، بالفعل كانا يعودان كل نصف ساعة لطلب كأس ماء أو إبريق شاي، وكان قلبي يتوقف عن النبض في كل مرة يُقرع فيها الباب”.
بقي الشقيقان في الخزان من السادسة صباحًا وحتى الخامسة مساء، “أطرافنا مخدرة من ميوعة دمنا وعدم الحركة، نخشى أن نعدل في جلساتنا فنصدر أدنى همسة، وأصوات القصف والقنص تزيدنا خوفًا. هل تصدقين؟ وصلتُ لحال تمنيت فيها أن يمسكوني بدل أن أبقى هكذا. أُرهقنا كثيرا من التعب والماء والرعب لإحدى عشرة ساعة”.
كان هذا اليوم من أكثر أيام حياة أحمد رعًبا، تولّت زوجته مراقبة الوضع من نافذة المنزل، وبمجرد أن رأت انسحاب جنود النظام بدباباتهم وغنائمهم أخبرته بذلك. نزل من الخزان مع عمرٍ جديد وُهب لأحمد وأخيه، وبدأ العناق والبكاء بشكل هستيري وكأنهما عادا من الموت، “كنا مرهقين لحد كبير لكن لا مجال للتوقف، وحسمتُ قراري بالعودة إلى المعضمية، لا مكان لنا هنا”.
الجثث في كل مكان
في الطريق إلى المعضمية، شاهدت العائلة الجثث على أرصفة الشوارع، “كل الشباب الذين استقبلونا في الجديدة كانوا بين القتلى وهي طريقة النظام في معاقبة من يظهر إنسانيته في الحرب، وجدنا جارنا مقتولًا ومرميًا في كراج البناء، ولم تكن رائحة الموت في المعضمية بأقل من ذلك، كان الدمار والخراب هائلًا عندما عدنا إليها”.
لكن العائلة لم تستطع تحمّل القصف والتصعيد الأمني أكثر، لذا أرسل أحمد زوجته مع أهله إلى لبنان، وبقي مع أبيه لإقناعه بالخروج من سوريا، كان يرفض تمامًا، فهو رجل سبعيني يرغب بالموت في بيته بالمعضمية.
في تلك الفترة شارك أحمد بالإسعاف والأعمال الإنسانية، لم يحمل سلاحًا، لكن ذلك كان يزعج عناصر الجيش الحر، وعندما زادت حدة العنف من قبل النظام على المعضمية قرر الخروج إلى لبنان، وبعد سلسلة من مراحل الهروب بين بساتين المعضمية وداريا وخان الشيح، وبقائه فترة لوحده في أحد البساتين، “هرّبه” ضابطٌ بالأمن الجنائي لقاء مقابل مادي، وهكذا دخل لبنان في بداية عام 2014.
لبنان: الشتات الأول
في لبنان التقى أحمد بزوجته وأهله، تعرّف على ابنه “نور الدين”، الذي وُلد بعيدًا عنه، لم يكن معه سوى ألفي دولار “تحويشة العمر”، وبدأ بالبحث عن عمل، فقد وعد زوجته بحياة كريمة.
“استأجرت منزلًا صغيرًا في البقاع وعملت بمجال الكهرباء، بتصليح غسالات اللاجئين في المخيمات بأجرة بسيطة تتناسب مع حالهم”، لكن هذا لم يعجب “أصحاب الكار” من العاملين في نفس المجال، “اكتشفتُ ذلك عندما اجتمع عليّ خمسة شبّان لبنانيين أثناء عودتي من عملي، ضربوني بشدة، واكتشفت أنهم من طرف مصلّح لبناني قديم، هددوني إن عدتُ لأعمل لاحقًا بتصليح الكهربائيات سيسلمونني للنظام، كان كلامهم بمنتهى العنصرية والتشبيح، وهي عنصرية كنا نسمع كلماتها في كل مكان بشوارع لبنان”.
ريماس: غصة عمري
زاد تعلّق أحمد بريماس، ابنته البكر، في لبنان، ذكية لمّاحة، جميلة ودودة، لم تكن تمشي كأقرانها، رغم أنه عرضها على أشهر أطباء دمشق وأكدوا أنها مع الأيام ستمشي، لكنها لم تمشِ، كان جسدها مليئًا بالكدمات نتيجة سقوطها المتكرر، وكان أحمد يحملها يوميًا إلى مدرستها هناك حيث أحبها الجميع.
بعد فترة بدأ أحمد يلحظ اصفرار وجه ريماس، قصد بها المشفى ليطمئن على صحتها، “بعد سلسلة من التحاليل همس الطبيب للمرضة بالفرنسية، استطعت تمييز كلمة “لوكيميا” بين كلماته، اسودت الدنيا في عينيّ، انهرت تمامًا، حلّ سرطان الدم ضيفًا في جسد الصغيرة، هربتُ بها من القصف والرعب، لكنني لم أستطع أن أنأى بها عن المرض، لم يكن بيدي حيلة أمنع عنها ذلك”.
صارعت ريماس المرض، في الليل كانت تبكي، تتألم، تنادي “بابا موجوعة.. خدني عالدكتور”، كان جسدها كمصفاة مليئة بالثقوب، نعطيها الدم والخضاب لتتحسن عدة أيام، وتعود بعدها لتعتلّ.
لم يكن الحصول على الخضاب أمرًا سهلًا، “كل معاناتنا في كفّة، والحصول على الخضاب لابنتي في كفة أخرى. كنت أمشي في الساحات أطلب متبرعين، أقصد أماكن السوريين، أتصل بأرقام متطوعين علّ أحدًا منهم يعطي قليلًا من الدم للصغيرة، أحيانًا أستغرق ثلاثة أيام لتوفير الخضاب لابنتي، وكانت التنقلات من البقاع إلى بيروت تستنزفني ماديًا، عشت فترة صعبة للغاية ما بين مرض ابنتي والحاجة المادية لتدبير ما يتكفل بالمعيشة والعلاج والتنقلات، في شدّة لم أجد فيها أحدًا إلى جانبي، لا قريب ولا نسيب”.
قطعة مني في لبنان
بعد خمسة أشهر من المرض، تعبت ريماس بشكل كبير وبشكل خاص بعد علاجها بالكورتيزون، قصدت العائلة بها المشفى في بيروت، هناك ساءت حالتها بشكل كبير وأخبرهم الطبيب عن تردي صحتها ووجود نزيف في دماغها تحّول إلى جلطة قطعت الدم عن نصف دماغها الأيمن. بقيت ريماس في العناية المشددة 15 يومًا، “لم يكن هناك مكان لأبيت فيه، كنتُ أنام في حديقة المشفى في برد كانون الثاني، أكل البرد عظامي كما نشّف البكاء دمعي، ولم يكن من سند لزوجتي سواي، وكانت زوجتي سندي الوحيد، استمر حالنا بين الدعاء والرجاء أمام جسد ابنتنا الساكن إلى أن توفيت بعد شهر من المبيت في المشفى في شباط 2015، وتبرع لي شخص لبناني بقبر ابنتي”.
“دفنتها بيديّ، مشى شريط حياتها أمام عيني وأنا أدفنها، كنتُ متعلقًا بها للغاية، كانت تحبني كثيرًا، لا أدري: ليش هيك صار”.
السرطان يشلّ حياة العائلة، فماذا إن كان في بلد غريب؟
“بعد وفاة ابنتي لم أعد أطيق البقاء في لبنان، اسودّت الدنيا في عيني، تركنا المنزل وكل ما يذكرنا بابنتنا وعشنا مع أهلي، ثم قررنا الهجرة”. استدان أحمد مبلغًا من المال من قريب له في النمسا، وعادت زوجته إلى سوريا لاستخراج جواز سفر لابنه الصغير، لكن الأمن على الحدود اللبنانية ختم لها “منع من الدخول” بسبب مخالفتها بالبقاء، ومازالت إلى الآن عالقة في سوريا.
وهكذا قرر أحمد الهجرة لوحده، على أن يستدعيها بلم الشمل خلال أشهر قليلة، وفي 17 أيلول 2015 سافر إلى تركيا، وترك قطعة من روحه في لبنان.
تركيا: الشتات الثاني
أحمد نتوف (37 عامًا)لاجئ سوري في ألمانيا، من مدينة المعضمية بريف دمشق، متزوج وله ولدان. تعلم العزف على آلة الترومبون في العام 1996، وشارك مع فرق المراسم المدرسية خلال دراسته الثانوية. درس المعهد المتوسط للعلوم السياحية بدمشق وتخرج منه في العام 2001. خرج من دمشق متجهًا إلى لبنان هربًا من الحرب في سوريا في العام 2014، وعاش فيها عامًا كاملًا، وعمل في تصليح ولف المحركات الكهربائية. سافر إلى تركيا في أيلول 2015 بعد مضايقات تعرض لها من مواطنين لبنانيين. انتقل بطريقة غير شرعية إلى اليونان في تشرين الأول 2015. استقر أخيرًا في ولاية راين لاند بألمانيا وتقدم بطلب اللجوء فيها. ينتظر أحمد الحصول على الإقامة الألمانية، التي تخوله لم شمل عائلته التي تركها في لبنان. |
“عشرة أيام كنتُ أحاول فيها يوميًا الهروب من تركيا، وفي كل مرة كان يعترض طريق (البلم) شيء ما ونعود، مرة لم يكن هناك وقود، مرة تعطل المحرك، مرّة التقطنا خفر السواحل التركي وعادوا بنا إلى مدينة بورصة مع توقيع تعهدات، لكن ذلك كله كان يزيد إصراري على الهجرة، لا مكان لي في تركيا أيضًا، توجهت مجددًا إلى إزمير، كنا ننتظر بين الأشجار وتحت المطر، في العراء، انتظارًا لمهرب ينقلنا إلى اليونان”.
إلى أن حالفه الحظ أخيرًا، ووصل إلى جزيرة يونانية، ومنها توجه إلى أوروبا، وخلال ستة أيام كان في ألمانيا، دخلها في السادس من تشرين الأول 2015.
ألمانيا: الشتات الثالث
يعيش أحمد اليوم مع أصدقائه في منزل صغير بإحدى القرى الألمانية، ولأنه يتقن اللغة الإنكليزية يساعد بعمليات الترجمة للاجئين الجدد، يتعلم اللغة الألمانية بشكل ذاتي في المنزل، ويتواصل مع زوجته في سوريا عبر الإنترنت، “كنتُ أظن أن شملنا سيلتم خلال أشهر، لم أتوقع أن يطول فراقنا هذه المدة، اليوم أنا في ألمانيا من عشرة شهور ولا ضوء يلوح في الأفق. أخشى أن أموت من القهر بعد أن نجوت من الموت قصفًا. لي زوجة أحبها وأنتظرها، وابن أسميته عن بعد (جود) ولم أحمله بين ذراعي بعد، وأهل يعتبرونني الأمل الوحيد لهم، تخيلي.. الأمل الوحيد”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :