د. أحمد الشامي
الحدث التركي الجلل جعلني أكتب هذه المقالة على عجالة مع اﻷمل أن تتمكن “عنب بلدي” من نشرها صباح السابع عشر من تموز.
مقالة اﻷسبوع كانت مخصصة لانتقاد تقلبات السيد “أردوغان” السياسية، لكن محاولة الانقلاب الدموية التي جرت مساء الخامس عشر من تموز خلطت اﻷوراق لدرجة لا تسمح بالحياد. أيًا تكن المآخذ على سياسة “أردوغان” فالانقلاب عليه وعلى إرادة الشعب التركي جريمة تمامًا مثل جريمة “رابعة” ومثل براميل اﻷسد.
بعض ألسنة السوء اشتبهت أن يكون “أردوغان” ذاته وراء الانقلاب! بسبب السرعة التي تمت بها محاصرة الانقلابيين وإفشال مخططاتهم، لكن هذا الاحتمال يبدو مستحيلًا بسبب ضخامة عدد الانقلابيين (حوالي ثلاثة آلاف)، وبسبب مواقع هؤلاء، بالإضافة إلى سوابق الجيش التركي في الانقلاب على الشرعية.
هذه خامس مرة تنقلب فيها المؤسسة العسكرية الأتاتوركية على الحكم المدني منذ الستينيات، الانقلاب الرابع كان ضد “نجم الدين أربكان” وكان انقلابًا أبيض. هذه المرة بدأ الانقلابيون مباشرة بسفك الدماء، على سنة صديقهم “اﻷسد”، سواء على جسر “البوسفور” أو ضد مواقع القوات المساندة “لأردوغان”.
قائد القوى الجوية أرسل مقاتلاته لتخويف المواطنين اﻷتراك، ونزلت الدبابات إلى الشوارع مع جنود بكامل عدتهم وعتادهم، وأعترف أني حين خلدت إلى النوم مساء الخامس عشر من تموز كنت مصدومًا من احتمال أن يتكرر سيناريو “رابعة” لدى الجار الشمالي.
اﻷمريكيون واﻹسرائيليون وبعض الخليجيين لم يخفوا فرحهم، تلفزيون نظام “البراميل” أعلن نجاح الانقلاب فور وقوعه، وربما قبل. حتى صحف “السيسي” عنونت: “الجيش التركي يطيح بأردوغان”، وجاء كيدهم في نحرهم.
من هم هؤلاء الانقلابيون الذين احتفى بهم كل أعداء الحرية والديمقراطية وبعض مشايخ النفط؟
إنهم “أعمدة العلمانية” وأعداء “اﻹسلام السياسي”، وهم من يحلفون أغلظ اﻷيمان أنهم سوف يحترمون حقوق اﻹنسان وسيعيدون النظام الديمقراطي إلى سواء السبيل، وأنهم زاهدون في الحكم ولا يريدون التسلط على رقاب الشعب، لكنهم يريدون إرضاء ضميرهم ولا يرضون عن “دكتاتورية” الرئيس المنتخب “صوريًا” الخ… وباعتبار أن هؤلاء أتراكًا وعلمانيين وأصدقاء للشعب اليهودي، فقد خلا بيانهم من اﻹشارة إلى “ضرورة تحرير فلسطين التي أهملها النظام البائد..”.
من حسن حظ اﻷشقاء اﻷتراك أن جيشهم ليس حكرًا على أقليات “حبابة” و”مضطهدة”، وأن في هذا الجيش أناسًا لديهم حس وطني رفيع وشعور بالمسؤولية، ولا يريدون لجيش “أتاتورك” أن يصبح نسخة طبق اﻷصل عن جيش العصابة اﻷسدية، علمًا أن جيش العصابة انتظر بضعة أيام قبل إطلاق النار على السوريين الثائرين، في حين بادر انقلابيو تركيا إلى فتح النار فورًا على مبدأ “قطع رأس الهر من ليلة العرس…”.
لم أكن أخشى من نجاح الانقلاب، ففي رأيي المتواضع بعد تجربة النظام اﻷسدي وبراميله كان مصير “تركيا” الشقيقة سيتطور، ولو بعد حين، في اتجاه مشابه لمجرى اﻷحداث في سوريا. اللاعبون هم ذات اللاعبين والضحايا هم ذات الضحايا.
من جهة هناك نخب عسكرية تحتكر السلطة في سوريا وسوف تحتكرها في تركيا، هذه النخب التي تعود ﻷقليات مرفهة مرتبطة بالخارج وتمتلك فائضًا من القوة والسلاح، ترفض حكم اﻷكثرية وتحتقر الديمقراطية الحقة وحرية الرأي في مقابل أكثرية تريد حقها في الحياة والكرامة.
فشل الانقلاب هو خبر سعيد لكل أصدقاء الحرية وحقوق اﻹنسان، حتى من يختلفون مع “أردوغان” ولديهم تحفظات على سياساته، بمن فيهم كاتب هذه السطور، لكن أحدًا لا يرضى أن يعيش الأشقاء اﻷتراك ما نعيشه في الشام، وما من عاقل يعتبر الانقلاب على حكم منتخب بمثابة خطوة تحررية، فقد فات أوان الضحك على عقول الشعوب.
مبروك للأتراك و”عقبالنا”.