عبادة كوجان – عنب بلدي
ينوي “أبو محمد” بعد تدخين الحصة الأخيرة من سيجارة “التتن” الوطني الذي يفضله، إتمام أعمال الصيانة لمغارته التي أطلق عليها وصف “العروس”، فهي تعاني من رطوبة جعلت سقفها مائلًا للزرقة، ما يتوجب عليه خلط قليل من “الكلس” والإسمنت الأبيض ليستر عوراتها.
غرفتان رئيسيتان تتكون منهما “العروس”، واحدة للنوم تزينها “لمبة” حمراء متوهجة إن أشعلها في أوقات “الجخ” ووفرة المازوت اللازم لـ “تدوير المولدة”، و”لكس” يقول عنه ساخرًا إنه من زمن التتار، هو الأكثر استخدامًا. وهي الغرفة التي شهدت ولادة ابنه الثالث عبد الله.
الغرفة الأخرى والأخيرة هي “المضافة” حيث آثر “أبو محمد” انتقاء فرش تراثي كسائر أبناء مدينته، (اللطامنة)، وهو “مد عربي” من السجاد المزركش و”الطراحات” الملونة، والمساند الوفيرة. يرى في هاتين الغرفتين قصرًا عاجيًا “لا يبدله بمال الدنيا”، فقد حفر مغارته قبل ثلاثة أعوام بمئتي دولار أمريكي: “اليوم لو بتخلّص بخمسية دولار حميد ربك”.
ليس حبًا بالمغارات والكهوف التاريخية التي اشتهرت بها المدينة الجبلية الوعرة شمال حماة، وليس طقسًا سياحيًا مأخوذًا من الثقافة الأوروبية التي يحب أبناؤها أحيانًا الانتقال من الحضارة والرفاه إلى الشقاء والمغامرة كسرًا للروتين القاتل، بل خوفًا من براميل وأسطوانات وصواريخ فراغية وقذائف متنوعة، يرى فيها النظام السوري سبيلًا لاستعادة “المدينة الخارجة عن القانون” قبل خمسة أعوام. يقول أبو محمد إن الحل الأنجع هو “مغارة برطوبة لذيذة.. لو حصّلتها فالغارات متل رجلك”، أو النزوح إلى مخيمات الشمال، كما فعل ثلاثة من كل أربعة مواطنين فيها، وفق مجلسها المحلي.
كثيرون نقلوا تجربة اللطامنة إلى الشمال، بعد استفحال الموت الناجم عن عديد الأسلحة، لكن إدلب المدينة الخالية من الكهوف والمغارات، شهدت حلولًا قريبة بعد مغادرة جحافل النظام عنها، وزيارة طيرانه بشكل يومي لا يدع مكانًا للعتب. ثلاثون ألف ليرة أجرة القبو إن وجد اليوم “لو بدك طابق رابع عندي شقة مهواية بخمسة آلاف”، يروي “السمسار” محمد الإدلبي لعنب بلدي، غير آبه بالمتغيرات الطارئة “من الأسد إلى الفتح”.
الزوار المواظبون على واجباتهم، ألقوا مئات الصواريخ الفراغية على إدلب ما أدى إلى مقتل وجرح المئات على مدى أكثر من عام، بما لا يدع مكانًا للشك أن سوق الأقبية والدور الأرضية ستشهد انتعاشًا ملحوظًا، عقب انقشاع غبار الغارات ولملمة الجراح، كما يقول طارق، الشاب المقيم فيها.
يُدرج مكتب “مرجان” العقاري، ذائع الصيت في العاصمة دمشق، شقة في أحد أبراج مشروع دمر “طابق رابع بدون فرش”، عبر موقعه الإلكتروني وصفحته في “فيسبوك”، يتلقفها رواد العقارات بشراهة تبدو في تعليقاتهم “لقطة، مو غالية، منطقتا مرتبة…” لينهي “آدمن” الصفحة النقاش بالقول: الشقة تأجرت بـ 150 ألف ليرة بالشهر.
لا يطال القصف دُمّر الجبلية على أطراف العاصمة، ما يجعلها قبلة لعشاق الأمان النسبي ممن يسمح دخلهم الشهري بالمكوث فيها، كذلك غدت الطوابق العلوية في مدينة حماة أكثر جذبًا، ووصل إيجارها في إحدى ضواحيها الغربية إلى 75 ليرة سورية مقابل 15 ألف للأرضية وأقل بقليل للأقبية، ويندرج هذا على معظم المناطق التي لا يزورها الطيران أو القذائف القاتلة.
لكن الحال في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام مقلوبةٌ تمامًا، فقد نعى الوسط الطبي الدكتور حسن الأعرج، ذا الشهرة الواسعة في ريفي حماة وإدلب، بعدما قضى بصاروخ موجه على باب مشفى “المغارة” الذي افتتحه ليكون نموذجًا فريدًا بين المراكز الطبية، التي عادة لا تكون لائقة تحت الأرض.. لكن للظروف أحكامًا.
يجتهد السوريون كثيرًا في إيجاد الأماكن التي تكفل لهم الأمان النسبي، في ظل حرب ضروس لم تبق سوى نصفهم على امتداد جغرافيتها، لكن السنوات الخمس أثبتت أن الموت هو صاحب اليد الطولى في تحديد مصيرهم، إن كانوا في الأبراج أو الكهوف.