يعكف العديد من سياسيي المعارضة السورية ومثقفيها على صياغة رؤية سياسية لسورية المستقبل التي يتطلع إليها غالبية السوريين، بغض النظر عن خلفياتهم الأيديولوجية ومواقفهم السياسية وانتماءاتهم الإثنية أو الطائفية أو المناطقية. وتبرز أهمية هذا الجهد، الذي تنضوي في إطاره الاجتماعات وورشات العمل التي نظمت في أكثر من مكان، من افتقاد الثورة السورية خطابات جامعة، والاختلافات والتباينات بين مكوناتها السياسية والعسكرية، وغياب الثقة بين مكونات الشعب السوري.
ما هي سورية التي نذهب إليها؟ وكيف الطريق إلى خلاص لا رجعة عنه من نظام استبدادي احتكر السياسة والفضاء العام والموارد واختزل الوطن والدولة والسيادة والشعب في كرسي رئاسة، وفتّت بناه على أسس طائفية وولاءات سياسية؟ بعضهم في الثورة السورية يرى أن من المبكر طرح هكذا رؤية أو وثيقة قبل إسقاط النظام وبعضهم الآخر يرى أن مثل هذه الوثيقة يمكن أن تثير خلافات أو تفتت قوى الثورة. وعندي فإن هذه المسألة في غاية الأهمية لأن غالبية السوريين في حاجة إلى إدراك ما يحصل، ومعرفة ماذا نريد أو إلى أين سنأخذهم، أي أن هذا الجهد ضروري لنا كمعارضة وضروري للسوريين جميعاً كي يعرفوا إلى أين ينبغي أن نصل لإبقاء الأمل في قلوبهم وتعزيز ثقتهم بالمستقبل.
أما بالنسبة إلى قوى الثورة والمعارضة فإن هذا الجهد الهادف لصوغ وثيقة تأسيسية هو الذي يمكن أن يقرب في ما بينها، ويوضّح ما يتفق عليه وما يختلف عليه للوصول إلى إجماعات وطنية توافقية بطرق الحوار التي تمهد لحياة ديموقراطية وتفهّم أصول العيش المشترك.
من هنا أعتقد بأن أي اجتهاد بخصوص تعريف سورية المستقبل أو الوثيقة التأسيسية لسورية المستقبل يجب أن يرتكز على مجموعة مبادئ أساسية أهمها:
أولاً: وحدة سورية شعباً وأرضاً ودولة، أي من دون الإخلال بأي من هذه الثلاثية، التي تشكل وحدة متكاملة لأضلاع المثلث. وبينما يركّز بعضهم على وحدة الأرض، مقللاً من أهمية البعدين الآخرين، فإن الوحدة الأساس أو القاعدة هنا هي وحدة الشعب، لأن هذه الوحدة هي التي تحفظ وحدة الأرض والدولة، ولأن الشعب هو الموضوع وهو الهدف. أما بالنسبة إلى الفيديرالية فطبيعي أن نقول إن هذا الشكل من الإدارة يحتاج إلى نقاش وإجماعات بخصوصه، مع التأكيد أن أفضل النظم الناجحة اليوم هي النظم الفيديرالية، وأن الأنظمة المركزية هي الأكثر عرضة للوقوع في أسر الاستبداد، وأن الفيديرالية التي نعنيها تتقصد تعزيز الديموقراطية، والعدالة في توزيع الموارد في البلد، وأنها لا تقوم لا على أساس طائفي ولا على أساس إثني، وإنما على أساس جغرافي، وكشكل من أشكال اللامركزية، وتوزيع السلطات والموارد، في حال تم التوافق على هذا الشكل.
ثانياً: التأكيد على النظام الجمهوري، وهذا يعني أن الدولة تستمد سلطتها من الشعب، وأن السيادة تنبع من الشعب، من خلال ممثليه المنتخبين في البرلمان، وهذا يعني وضع حد للنظام الاستبدادي الذي يجمع أو يهيمن على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. علماً أن سورية عاشت أقصر حقبة للدولة الجمهورية في تاريخ الدول، وهي كانت انتهت مع بداية حكم الأسد الأب الذي حول الجمهورية إلى ما يشبه النظام الملكي، وهذ ما يجب الانتهاء منه. ويتفرع عن هذه المسألة النقاش بخصوص هل نريد نظاماً جمهورياً رئاسياً، أو نظاماً جمهورياً برلمانياً، وهذا أمر يحتاج إلى مزيد من النقاش خصوصاً على ضوء التجربة، وبالمقارنة بالتجارب الأخرى، وربما يكون النظام المختلط، أقرب إلى الصواب.
ثالثاً: فكرة المواطنة وتقوم على المواطنين الأحرار المتساوين، وهذا المبدأ يفترض ألا يفهم منه أن يطمس حالة التنوع والخصوصيات الطائفية أو الإثنية، بل إنه يجعل الهوية السورية تتقدم الانتماءات الأخرى وتساوي بين السوريين، نساء ورجالاً، لأن أي تعريف آخر يأخذ في اعتباره أولوية الجماعات الإثنية أو الطائفية يقوّض فكرة المواطنة وفكرة الشعب لمصلحة الدولة الطائفية أو دولة الجماعات الهوياتية، سيما مع اجتهادات بعضهم عن ضمان حقوق المكوّنات بدل حقوق المواطنين من سائر المكوّنات. ويفترض أن يفهم من ذلك أولاً التأكيد على تأسيس سورية الجديدة على المواطنة، والمواطنين الأفراد، الأحرار والمتساوين، في دولة مؤسسات وقانون وفي ظل نظام ديموقراطي يتيح التعددية والتنوّع. وثانياً، احترام الخصوصيات والثقافات الإثنية والدينية وإتاحة المجال لها للتعبير عن نفسها باعتبارها عامل إغناء وحيوية للمجتمع السوري، وهذا ما يحل المسألة الكردية العالقة، حتى الآن، على سبيل المثال.
رابعاً: في النظام السياسي، وهذا يفترض أن يتأسس على الفصل بين السلطات، واحترام الدستور (الذي يتم الاتفاق عليه)، وتداول السلطة عبر الانتخابات، وحرية الأحزاب، واحترام حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل.
خامساً: الحفاظ على مؤسسات الدولة مع وجوب إعادة تشكيل المؤسسات الأمنية والعسكرية بحيث يكون التنسيب والهيكلة على أساس الكفاءة والنزاهة واحترام القانون وحقوق الإنسان وتحمل المسؤولية والخضوع للمحاسبة.
هكذا، فإن كل رؤية لسورية الجديدة، التي لم نعرفها سابقاً، لا تحمل كل هذه المبادئ ستبقى مجرد محاولة لإحلال سلطة مكان سلطة، وهي قد تبشر بإعادة إنتاج نظام استبدادي جديد، وليس من أجل ذلك ضحّى السوريون.