الدولة المدنية عكس العسكرية، وأساسًا تطلق على الدولة الغير دينية، أي التي لا يحكمها رجال الدين، كما نتحدث نحن عن زواج مدني وزواج شرعي، ونقصد بالشرعي الذي يكون تحت رعاية رجل أو عالم الدين الإسلامي، والمدني ما يتم حدوثه في مؤسسات الدولة المدنية.
أساس الدولة المدنية (وهذه نقطة غاية في الأهمية وهي محور مقالنا اليوم)، أساس الدولة هو القانون الوضعي، القابل للنقد والمراجعة دائمًا، فدستور هذه الدولة، يضعه أشخاص مدنيون، قانونيون وسياسيون ورجال حقوق إنسان، وقد يكون لهم مرجعية دينية حسب الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الأشخاص، فالقانوني أو السياسي ربما يكون بخلفية مسلمة أو مسيحية أو غيرها، ولابد من انعكاس دين الشعب على الأشخاص الذين يَصيغون دستور الدولة. المهم أنه لا يوجد في الدولة المدنية قانون مقدس غير قابل للنقد، وهذه النقطة للأسف غير مفهومة من قبل الكثير من الذين يسوّقون لمشروع الدولة التي يحلمون بها، على أنها دولة مدنية بمرجعية إسلامية، ولكنه تسويق يحدث أساسًا تحت ضغط الثقافة الغربية.
هذه الجملة الأخيرة(دولة مدنية بمرجعية إسلامية) هي مدار الجدل، ما معنى المرجعية الإسلامية التي نتحدث عنها؟
نتحدث في الشريعة الإسلامية عن مبادئ وثوابت، لابد للدولة أن تأخذها باعتبارها، بأي دستور قد يُطرح في البلاد.
للشريعة مبادئ وثوابت روحية متفق عليها بين كل مذاهب الإسلام(كالعدل والصدق والوفاء بالعهد والتمسك بالأخلاق على المستوى الداخلي والخارجي واحترام الأسرة كمؤسسة اجتماعية ومحاربة الشذوذ وعدم جعل الدين مطية للوصول للحكم وغيرها)، كما أنّ هناك مقاصد خمسة للشريعة، اختصرها الشاطبي في كتابه المشهور(الموافقات)، هذه المقاصد هي حفظ الدين وحفظ العقل والنفس والمال والعرض.
وهناك أخيرًا أحكام ثابتة بنصوص القرآن والسنة، كقطع يد السارق وحد الزاني، وبعض المحرمات كالخمر ولحم الخنزير، وبعض الممنوعات كتبرج المرأة والاختلاط بين النساء والرجال، يعتبرها الكثير من الإسلاميين وينادون بتطبيقها في دستور وقانون أي دولة تكون ذات مرجعية إسلامية، باعتبارها حكم منزل من عند الله ولا يجوز تجاوزه، طبعًا قائمة هذه المحرمات والأحكام القطعية تطول وتقصر حسب الحركة الإسلامية وحسب انتماء أعضاءها، فالثوابت والأحكام القطعية التي يطرحها السلفيون تزيد فيها القائمة كثيرًا على ما يطرحه الإخوان مثلًا، وسنجد أيضًا خلافًا بين ما يطرحه الإخوان في كل بلد و بينهم وبين النهضة في تونس، وهكذا، كلٌ يطرح فهمه وتصوره للإسلام، وتؤثر الشخصيات القيادية ومكان وجودها وإقامتها كثيرًا على توجهات الحزب والحركات الإسلامية في كثير من الأحيان.
نعود لموضوعنا، هناك اتفاق بين مفهوم الدولة المدنية والمرجعية الإسلامية إن كنّا نتحدث عن المبادئ الروحية ومقاصد الشريعة، أي أن الدستور عليه أن يضمن حفظ الدين(حرية العقيدة) والعقل والنفس(الحياة) والمال والعرض، وعليه أن يصوغ القوانين الكفيلة بذلك، فلاوجود مثلًا لقانون يبيح الشذوذ الجنسي أو زواج المثليين، فهذا يتناقض مع مبادئ ديننا في اعتبار الأسرة خلية مقدسة، تنتج الحب وأجمل العلاقات الإنسانية، وتعتبر من أهم ركائز الأخلاق والمجتمع.
كما أن سياسية هذه الدولة يجب أن تتوافق مع مبادئ الإسلام الروحية في العدل والصدق والالتزام بالعهد وغيرها ، فكيف لنا أن نتحدث عن دولة بمرجعية إسلامية فرضًا، وفي شريعتها مفهوم العدل راسخ أكثر من أي مبدأ آخر (يأيّها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا .. اعدلوا هو أقرب للتقوى…)، كيف لنا أن نتحدث عن تلك الدولة وهي لا تعدل بين مواطنيها أو تفاضل بينهم حسب الانتماء والعرق والطائفة؟! وكيف لنا الحديث عن دولة بمرجعية إسلامية وهي تغتصب من أراضي الدول المجاورة، أو أنها تنقض اتفاقًا تمت الموافقة والالتزام به؟
الخلاف يبدأ عند الأحكام الفقهية، واعتبارها أحكامًا إلهية يجب تضمينها في الدستور. هنا تبدأ المصادمة بين مفهوم الدولة المدنية ومفهوم المرجعية الإسلامية.
صحيح تمامًا، فحكم السارق في الدين الإسلامي هو قطع اليد، وهو حكم منزل من عند الله، ولكن الدولة المدنية لا تتعامل معه باعتباره حكمًا غير قابل للنقد أو الإزالة أو التعديل، بل قد يتغير هذا الحكم إن لم يؤدي النتائج المرجوة. نحن لا نتكلم عن إيقاف الحكم لفترة معينة كما فعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، عندما أصابهم القحط في سنة من السنين، لأنه حينها كان قد اختلّ أحد شروط تطبيق حد السرقة، ولكن نحن نتحدث أنه قد يلجأ واضعوا الدستور والقانونيون، إلى وضع حد أو قانون غير قطع اليد، في حال لم تكن هناك جدوى من القانون الأول (طبعًا ربما يكون التأويل في تغيير الحكم من العلماء أنفسهم، في أنّ طبيعة الناس فرضًا أو زمنهم، أو توقيت تطبيق هذا القانون لم يكن في الوقت المناسب أو لم يكن بالطريقة المناسبة، لذلك وجب سن قانون جديد يحقق مصلحة الناس ويؤدي الدور المطلوب)، وهذا كله قد يكون مرتبطّا باستفتاء أو تزكية من قبل الشعب، وقد يُقَر القانون في دستور ويُلغى في دستور بعده، ومحور الحديث هو تصحيح النظر للدولة المدنية وطريقة سن القوانين فيها، فلا قانون فيها فوق النقد.
قد نكتشف بعد التجربة والتجربة التي بعدها، وبعد النقد والمراجعة الحقيقة، أنه لا يوجد أفضل من قطع يد السارق، لضمان أمن الناس وردع السارقين الآخرين، وأنه لا مناص من تحريم الخمر، ولكنها ستكون تجربة عملية بامتياز، وإيمانٌ مع اطمئنانٍ كامل في القلب، عندها قد يتحقق حكم الله فينا تمامًا.