سيرين عبد النور – أورفة
لم تتوقف تجارة الآثار المهربة في مدينة أورفة التركية الحدودية مع سوريا، رغم أن نشاطها شهد انخفاضًا خلال الأعوام الماضية، فهي ماتزال تشكل مصدرًا مهمًا لتمويل الكثير من الأفراد والتنظيمات بين سوريا وتركيا، رغم إقفال الحدود والتشديد الأمني بينها.
داخل أحد المقاهي في مدينة أورفة يجلس الشاب “أبو البراء”، وهو من المنطقة الشرقية لسوريا، وفي العقد الثالث من عمره، ويقول إن المقهى شهد العديد من الصفقات “المربحة”، موضحًا أنه “كان مكانًا للكشف عن البضائع واستلامها”.
“بعض البضائع كانت تحتاج إلى الدراسة والتحليل والكشف، لذا تؤخذ عينات صغيرة منها لتحليلها في مخابر خاصة”، يضيف الشاب، الذي أوضح أن “المخطوطات الدينية المكتوبة وخاصة اليهودية والمسيحية هي الأكثر طلبًا بين القطع، أما الأكثر شيوعًا فهي العملات، سواء الإسلامية أو اليونانية أو الرومانية”، مشيرًا إلى أنه “رغم وجود زبائن مهتمين بها إلا أنها أرخص سعرًا وأصعب نقلًا لأن من يشتريها يطلب كميات كبيرة منها”.
جوّ من التكتم وجولات بين المدن التركية
لم يكن لقاء “أبو البراء” سهلًا، فهو يحيط نفسه بجو من السرية والكتمان، ولا أحد يعلم شيئًا عن تنقلات الشاب ورفاقه، فهم من رواد المقاهي “الفخمة” ذات الأسعار المرتفعة، بينما يقول البعض إنهم صلة وصل ومندوبون لتنظيمات داخل الأراضي السورية.
عنب بلدي التقت الشاب في أحد فنادق أورفة، حيث يقيم في كل زيارة له إلى المدينة، واعتبر في حديثه أن ما يقوم به أقرب إلى التسلية التي تمكنه من الحصول على المال والعيش “بشكل مريح”، مردفًا “بدنا نعيش وهي رزقتنا”.
لا يهتم “أبو البراء” بالمبلغ الذي ينفقه لترويج بضائعه التي يعرضها على خبراء أجانب بشكل مستمر، على حد وصفه، ويختلف سعر القطعة بحسب أهميتها ومكان التسليم، إذ يتنقل مع أصدقائه بين اسطنبول وأزمير وعدد من المدن السياحية الأخرى، عارضًا بضائعه على الزبائن في ظروف أقل ما وصفها بأنها “مريحة”.
تختفي عن المشهد الكثير من المعلومات عن هوية المشترين، باعتبار أنه غالبًا ما يظهر وسطاء أترك وعرب بدلًا منهم، وحتى في حال حضورهم تبقى جنسياتهم مجهولة، بحسب أحد مرافقي “أبو البراء” (رفض كشف اسمه)، ولفت إلى أن “الثابت الوحيد هو اهتمامهم بالقيمة المادية والتاريخية للقطع المباعة”.
“مجرد حجارة وأصنام، لكن الأجانب يحبون إنفاق المال”، عبارة عبّر فيها “أبو البراء” عن اندهاشه من الخبراء الأجانب الذين “يفتنون” بالقطع المعروضة، على حد وصفه.
عمليات منظمة والفصائل “مستفيدة”
“لم أكن أظن يومًا أنني سأتحول إلى تاجر آثار، لكنها الحياة والحرب”، بهذه الكلمات يلخص الشاب عماد سبب عمله في بيع الآثار المهربة من سوريا. الشاب كان ينتمي لأحد الفصائل المقاتلة في مدينة ديرالزور، والتي أشرفت على جزء من عمليات التنقيب والبيع بمساعدة خبراء غربيين، منهم من قدم إلى دير الزور بين عامي 2013 و 2014، ومنهم من انتظر عند الحدود لمعاينة البضاعة والتأكد منها ثم نقلها، على حد وصفه.
عماد، الذي يحمل إجازة جامعية (رفض التصريح عنها)، اعتبر أن عمليات النقل جزء مهم من هذه التجارة ،“ذلك يؤثر على السعر، فالقطع التي تباع في سوريا أرخص من التي تباع خارج الحدود”، ويدخل في ذلك حساب عمليات السمسرة وعدد الوسطاء وتكاليف تهريب القطع، كما يختلف السعر بحسب الفصيل الذي تمر عبره، وتعتبر مناطق تنظيم “الدولة الإسلامية” الأغلى سعرًا، بحسب عماد.
ويروي الشاب كيف بدأ الكثير من الشباب أمثاله في المنطقة، بعمليات الحفر والتنقيب مدفوعين بالحاجة المادية وحالمين بالثراء، وأوضح “كان الأمر صعبًا في البداية لكن ومع استخراج أول قطعة بدا أكثر يُسرًا”.
تنقّل عماد مع أصدقائه بين عدة مواقع داخل وخارج دير الزور، منها ريف الحسكة والرقة وإدلب، وكان شاهدًا على استخراج العديد من القطع “الهامة” ومنها عمود روماني مزين بالمنقوشات، وكتاب ديني ولوحة جدارية كبيرة (8*3 أمتار) مزينة بالرسوم، وجميعها نقلت وبيعت خارج سوريا، كما يقول.
ويغص هاتف الشاب بالكثير من صور القطع الأثرية التي تختلف في أحجامها، منها ما بيع سابقًا، وأخرى تنتظر الزبون والسعر المناسب، على حد وصفه، وأشار إلى أن “تجارة الآثار أفرزت خلال السنوات الماضية عناصر أساسية وشبكات منظمة، يبدأ عملها من التنقيب واستخراج القطع في سوريا ثم نقلها إلى أقرب منطقة حدودية، ثم تقييمها بشكل دقيق لتعرض على المشترين”.
“هذه الحجارة تروي قصة وطن“
يعترض الكثير من الناشطين المدنيين على هذه التجارة، مدللين على خطرها بأن “هذه الحجارة تروي قصة وطن وتشكل جزءًا منا كأمهاتنا وآبائنا، ولا أتخيل أن يقدم أحد على بيع والديه”، كما يقول علي الفرحان، المهتم بالتاريخ السوري وعضو المنصة المدنية (تضم أعضاء يمثلون مؤسسات المجتمع المدني في أورفة)، معتبرًا أن أبشع ما في الأمر هو أن يستهين الناس ببيع تاريخهم وحضارتهم.
ووفق الفرحان فقد ألحقت عمليات التنقيب العشوائية الكثير من الأضرار بالمواقع الأثرية في سوريا، وأبدى خشيته من استمرار الوضع الحالي لسنوات أخرى مقبلة، وخاصة في ظل الحرب وغياب الاستقرار وبالتالي تهديد المزيد من المواقع.
لكن الأخطر كما يرى الفرحان هو عمل هؤلاء الشباب “ضمن فتاوى صدرت من قبل رجال دين أباحت لهم هذه التجارة، أسبغت عليها المشروعية”، لافتًا في حديثه إلى عنب بلدي أن بعض فصائل “الجيش الحر” والتنظيمات التي تعاقبت على المنطقة، وخاصة “جبهة النصرة” وتنظيم “الدولة” أشرفوا على عمليات تنقيب.
وأوضح أن التنظيم “يعمل ضمن قوانين خاصة بالتنقيب سامحًا للأفراد بممارسته تحت إشراف (ديوان الركائز) أي الثروات الباطنية الموجودة داخل الأرض، شريطة الحصول على إذن مسبق منه ومنحه نسبة 50% من قيمة الآثار، إضافة إلى خُمس حصة الفرد من العملية”.
قسمة، رغم أنها “غير عادلة” في نظر الفرحان، إلا أنها وفرت جوًا آمنًا للعمل، وغطاءً من الشرعية الدينية، إضافة إلى الحماية العسكرية، وتسهيل عمليات النقل إلى خارج الحدود السورية.
ويرى الناشطون السوريون في مدينة أورفة أن الاستمرار بتجريف الماضي وتدميره بهذا الشكل، لن يترك مستقبلًا للسوريين، بينما يعتبر كل من “أبو البراء” ومرافقه أن تجارة الآثار عبر الحدود مستمرة رغم التشديد الأمني ومحاولات الجانب التركي ضبطها، “فالأبواب تقفل فقط في وجه الفقر أما التجارة فتستمر بالتدفق ومنها القطع الأثرية وغيرها”.