حذام زهور عدي
تسارعت التغيرات الإقليمية وغير الإقليمية في الآونة الأخيرة، من اهتزاز الاتحاد الأوربي بخروج بريطانيا، إلى المحاولات الروسية فك الحصار الاقتصادي عنها، إلى التحريك الذي شهدته أروقة الخارجية الأمريكية للمسألة السورية، ومن ثم إلى تطبيع العلاقة الإسرائيلية- التركية، وانفراج أزمة أنقرة مع روسيا، إضافة إلى محاولات دول آسيا الوسطى الإسلامية لعب دور مؤثر إلى حدٍ ما في السياسة الإقليمية، والمحاولات الهامسة لدفع العلاقة المصرية- التركية لتكون أقل عداءً وأكثر انفتاحًا، إلى أمور قد تكون مازالت مغيبة في سراديب من بيده مفاتيح أقدار البشرية.
تلك التحولات لاشك أنها ترسم مسارًا إن لم يكن جديدًا كليًا في السياسة العالمية، فهو مختلف إلى هذا الحد أو ذاك عن الأوضاع السابقة، وكأن تشكيل النظام العالمي الجديد الذي بشر عددٌ من المفكرين الغربيين به، قد بدأ يبدل أسنانه اللبنية بأخرى دائمة.
أما السوريون فهم واعون أن للدول مصالحها، وأن الزمن كفيل بتداول الأسباب والنتائج وخلق ظروف جديدة، ولايهمهم من كل ما يجري إلا مدى تأثيره على ثورتهم وعلى ما نتج عنها من تدمير النظام الأسدي لسوريا، دولة ومجتمعًا واقتصادًا وسيادة.
ولأن تأثير التغيرات البعيدة أقل بشكل ملموس عن تأثير التحولات الإقليمية عليهم، لذا تجدهم مهتمين اهتمامًا قد يكون مبالغًا فيه بالسياسة التركية الخارجية والداخلية ومساراتها، محاولين فهم علاقتها بحياتهم الواقعية.
وأهم ما يشغل بالهم موضوع اللجوء وتصاريح الإقامة والعمل والدعم السياسي واللوجستي وربما العسكري لثورتهم، على الأقل للمحافظة على التوازن مع النظام الأسدي الذي يمعن في إذلال من يعتقد أنه الحاضنة الشعبية للثوار.
أظن أن قلة من السوريين كانوا يعتقدون بأن أردوغان سيرسل الجيش التركي لإسقاط الأسد، بعد أن استخدم كل المصالح الاقتصادية والسياسية لإقناعه بإجراء إصلاحات حقيقية تُرضي الثائرين وفشل في المهمة.
هؤلاء الذين فكروا بعواطفهم ولم يعرفوا أن سياسة أي دولة هي في النهاية الحفاظ على مصالحها بالدرجة الأولى، وتأتي الإيديولوجيا في أحسن الأحوال كبند قبل الأخير، أما الكثرة من السوريين فكانت تتلمس المصالح غير الإيديولوجية المشتركة بينها لتبني عليها.
هل حققت المعارضة السياسية والثوار المسلحون نتائج مرضية لهذا البحث والتلمس حتى نصاب اليوم بالدهشة والإحباط من المصالحة التركية- الروسية؟ دون الحديث عن الانفتاح التركي- الإسرائيلي الذي يحيط بالثوار من كل مكان.
الروس المتحالفون تقريبًا مع إسرائيل الذين تابعوا سماح النظام لها باستباحة السماء السورية ، وزادوا عليه الشواطئ السورية التي تحولت إلى نقطة انطلاق للسفن الإسرائيلية، أم حزب العمال الكردستاني الذي أصبح ظهور الإسرائيلي العلني في المناطق المسيطر عليها، أم في الجولان بعد تسليمه تسليم اليد أم..أم.. بينما تختنق المصالح التركية بالضغط الروسي من الشمال والكردي- الأسدي من الجنوب وإيران شرقًا وشمالًا في العراق وسوريا، بالرغم من حالة الود الظاهرية بينهما والمصالح المتشابكة، في الوقت الذي يتغاضى الناتو -وهي عضو فيه- عما هي به، وتقبض من حليفتها أمريكا الرياح والسراب، ويغلق نادي الاتحاد الأوروبي أبوابه في وجهها.
ماذا ينتظر السوريون من تركيا غير أن تحرص على مصالحها؟ وماذا يتوقعون من أردوغان الذي دخل السلطة بتنمية اقتصادية مدهشة وبسياسة تصفير المشاكل، ثم مع خناق النظام العالمي الجديد عليه قد يخرج وتركيا مقسمة والاقتصاد منهار والمشاكل تعصف ببلده من كل حدب وصوب؟
ليس دفاعًا عن أردوغان، فهو لا يعنيني إلا بمقدار ما تنفع مواقفه السوريين، ولكنني أجد تفاهماته الجديدة هي مرونة السياسي حين يُحدق الخطر ببلاده فقط لا غير، وليس لي –أنا السورية- أن أطلق أحكامًا سلبية أو إيجابية على تلك السياسة، فالشعب التركي أدرى بأموره، ومعارضة نظامه من أنشط المعارضات ولها كامل الحق في تقييم سياساته.
بل أكاد أعجب بالسياسة الأردوغانية تجاه اللاجئين السوريين، ليس من الناحية الإنسانية فحسب إنما من ناحية المصالح القومية التركية الاستراتيجية، وتلك تحتاج لمقال آخر، ويكفي هنا أن أشير إلى أن وضع اللاجئين في مخيمات محروسة وإصدار قوانين الإقامة المتشددة والمرتبطة بالمنافع الاقتصادية تدل على وعي لمستقبل ما يتركه لجوء كتل سكانية كبيرة على تماس مع حدود وجودهم التاريخي من مشاكل، خاصة إذا تُركوا أحرارًا في الأرض التركية.
هل هذا في مصلحة السوريين اللاجئين؟ ربما نعم وربما لا، لكن ليس على الضيف أن يفرض الوضع الذي يتمناه على مضيفه، ومن السذاجة تحويل فكرة الأنصار والمهاجرين إلى إلزام عصري لقائلها.
كل ماسبق لا يعني إعفاء تركيا من مسؤولياتها تجاه الثورة السورية والشعب السوري، ليس حبًا بجمال السوريين -وإن كانوا يستحقون ذلك الحب- لكن لأن انتصار الثورة السورية هو في صميم المصلحة الوجودية لتركيا، ولا أظنهم غافلين عن تلك المصلحة.
ما يتمناه السوريون من السياسة التركية الجديدة وبمنطق المصالح أيضًا أن تجيب على التساؤلات التالية:
– هل تستطيع من خلال العلاقة الودية مع النظام الإيراني عقلنة سياسة الملالي تجاه الثورة السورية، وتخفيف الاحتقان الطائفي الذي بثوا سمومه في المنطقة العربية كلها؟
– هل تستطيع الاستفادة من فترة جمود السياسة الأمريكية فتعمل على إنشاء منظومة إقليمية تتلاقى حول مصالح مشتركة تنموية مستقلة سياسيًا عن مصالح الدول الكبرى قدر الإمكان؟
– هل تستطيع الاستفادة من اهتزاز الاتحاد الأوروبي، ومشكلة اللاجئين عنده، وحياد البيت الأبيض، وحاجة روسيا لانفتاح اقتصادي يخفف عنها عبء الحصار، للعمل على غض البصر الروسي عن دعمها للثوار السوريين دعمًا مؤثرًا يضغط على النظام الأسدي من أجل حل سياسي عادل، ينصف السوريين ويمسح جبين مآسيهم؟
تلك هي المصلحة السورية الاستراتيجية، فإن استطاعت فعل ذلك، فالسوريون قادرون على تجاوز ما بقي من التفاصيل وحلها.
أما السوريون فعليهم أن يفهموا –للمرة الألف يرددها الحريصون على نجاح الثورة- أنه لا أحد في هذا العالم مستعدٌ للتضحية بمصالحه من أجل الآخرين مهما حسُنت النوايا، وأن وحدتهم السياسية والعسكرية وعقلنة ممارستها ونبذهم الشخصنة، واستمرار نضالهم البناء وتشكيل القوة المؤثرة، ذلك ما يُنقذهم فقط، وهو ما سيحجز لهم مقعدًا في النظام العالمي الجديد.