عمر الحلبي – عنب بلدي
شكّلت حاجة النظام السوري إلى عناصر مقاتلة في صفوفه، وفرض التجنيد الإجباري والاحتياطـ وإعلان التعبئة العامة على مدار سنوات الثورة، فرصة معيشة و“ارتزاق” لعدد كبير من عناصر شُعب التجنيد والضباط المسؤولين عن التجنيد الإجباري، في عموم المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، عبر تسعير خدمات التأجيل الدراسي وإيقاف سحب الاحتياط.
وخلال الفترة الماضية، لجأ آلاف الشباب المطلوبين للخدمة الإلزامية إلى البحث عن مبررات لتفادي السَّوق إلى جبهات القتال، دافعين أموالًا طائلة في أروقة شُعب التجنيد وجيوب الضباط المستفيدين من حالة الفساد المستشري، في ظل انعدام أي فرص للهروب من التجنيد الإجباري.
ومع إصرار النظام وتشدّده في إلزام الشباب على الالتحاق بالجيش، كان سعيد الحظ من يعيش في مناطق سيطرة النظام ويملك وثيقة “تأجيل دراسي” أو يحصل على موافقة تأجيل لأغراض السفر، وبالتالي ضمان فرصة البقاء بعيدًا عن صفوف الجيش والجبهات، لكن إلى حين.
وعزّزت حاجة النظام إلى الموارد البشرية بعد تعاظم خسائره في مختلف الجبهات ضد قوات المعارضة السورية وتنظيم “الدولة الإسلامية”، ضرورة توفير عناصر بشرية، وأمام النقص الحاد تم اللجوء إلى الاستعانة بالميليشيات الأجنبية العراقية والأفغانية والعراقية، لكن بقيت هناك حاجة لمزيد من القوات، وهنا كثفت السلطات البحث عن الشباب في عمر التجنيد (18 – 40 عامًا) من أجل السَّوق إلى الخدمة.
حرب النظام لا حرب الشباب
كثير من الشباب السوري، يرى أنّ الحرب التي يخوضها النظام، هي حرب تخصه وليست حربهم، ما يجعلهم يتفادون الانخراط بها، لذلك بدأ البحث عن سبل لتفادي الانخراط فيها، فسعى ميسورو الحال إلى دفع مبالغ نقدية لأصحاب النفوذ من أمنيين وعسكريين من أجل الحصول على وثيقة تأجيل للخدمة، فيما التزم آخرون البيوت خوفًا من الاعتقال.
ينص المرسوم التشريعي رقم 30 لعام 2007 على أن مدة خدمة العلم الإلزامية 24 شهرًا، تبدأ من تاريخ سَوق المكلفين من المناطق التجنيدية إلى معسكرات السَّوق وتنتهي في اليوم الأول من الشهر الذي يلي تاريخ انقضائها.بينما يستدعى الشباب لخدمة الاحتياط وفق متطلبات المرحلة، لكن المرسوم لا يحدّد فترات الاحتفاظ بالجنود خلال خدمة الاحتياط. |
ونتيجة ذلك، انتشر السماسرة ومعقبو المعاملات على أبواب شُعب التجنيد ليعرضوا خدماتهم لقاء مبالغ مالية ضخمة قد تصل في بعض الأحيان إلى ملايين الليرات السورية لقاء منح أحد المطلوبين تأجيلًا عن الخدمة.
بموجب شهادات جمعتها عنب بلدي من مناطق سيطرة النظام، وبعض شُعب التجنيد التي افتتحت “على عجل” لتجند أبناء المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، واتخذت من أبنية سكنية وحكومية مقرات لها في العاصمة دمشق ومدن الساحل على سبيل المثال، يتبين أن تجارة “تأجيل الخدمة الإلزامية” أو شطب الأسماء من “سجلات الاحتياط”، أهم تجارة رائجة حاليًا في هذه الأوساط نظرًا لما تدره من أموال على رؤساء هذه الشُعب والإدارات العليا في أركان النظام ومؤسساته العسكرية والأمنية.
إقامة جبرية في المنازل
لمدة ثلاث سنوات بقي الشاب إيهاب حسن (اسم مستعار)، ابن مدينة جرمانا في ريف دمشق حبيس المنزل، فالخوف من توقيفه على أحد الحواجز التي تحيط بالمدينة ثم اقتياده إلى صفوف الجيش لكونه مطلوبًا لأداء خدمة الاحتياط فرض عليه ما يسميه “إقامة جبرية”، ويقول لعنب بلدي “في العام 2014 وضع اسمي على الحواجز، وأخبرني والدي أنني مطلوب لأداء الخدمة الاحتياطية علمًا أنني أنهيت الخدمة الإلزامية العام 2008، وعليه بقيت في المنزل وامتنعت عن الخروج، فتوقف عملي وأصبحت عاطلًا”، مشيرًا إلى أنه تواصل مع أحد أقربائه فأخبره بإمكانية مساعدته عبر حذف اسمه من “سجلات الضباط” في رئاسة الأركان، وبالتالي رفع اسمه من الحواجز وعودته للحياة من جديد.
وأوضح حسن أن صديقه طلب لقاء ذلك مبلغ خمسة ملايين ليرة سورية، وهو مبلغ سيذهب إلى أحد الضباط النافذين والمقربين من وزير الدفاع في حكومة النظام، جاسم الفريج.
يقول حسن “من أجل الحصول على توقيع الوزير، ورفع اسمي من سجلات الاحتياط، عليّ تأمين هذا المبلغ خلال مدة شهر، وإلا سأبقى مطلوبًا، وأنا بحاجة لتعديل وضعي من أجل مغادرة البلاد”.
ضباط يستغلون المطلوبين
كثيرة هي الأسباب التي تدفع العاملين في شعب التجنيد من إداريين وضباط لاستغلال الحالة التي تمر بها البلاد من أجل التربّح وتحقيق المكاسب على حساب المواطنين، إذ يعد الحصول على تأجيل خدمة العلم من أهم الفرص التجارية غير المشروعة لهؤلاء، كذلك استصدار مذكرة “كف بحث” بحق المطلوبين، وأخيرًا منح شخص ما تأجيل بقصد السفر، إذ يفرض السماسرة أسعارهم لقاء كل واحدة من هذه الخدمات وتبدأ بنصف مليون ليرة لكف البحث وتصل إلى خمسة ملايين للتأجيل الواحد.
ويعزو الشاب حسن ارتفاع المبلغ إلى هذا الحد، لكونه سيوزع على سلسلة متكاملة تبدأ من العنصر في شعبة التجنيد لتنتهي في مكتب وزير الدفاع، على حد قوله، ويعتبر أن من يحصل على تأجيل سفر خلال هذه الفترة يكون سعيد الحظ، لأن إشاعات صدرت بأن سلطات النظام تتجه إلى منعها، في مسعىً للتضييق أكثر على الشباب وحشرهم في الزاوية.
تتشابه حالة الشاب حسن مع آلاف الشبان السوريين الذين لم يجدوا بدًا من تأمين مبالغ مادية لصالح رؤساء شُعب التجنيد، والعناصر الأمنية.
فالشاب محمد أحمد (29 عامًا)، من أبناء محافظة إدلب، قرر بعد إنهاء دراسته الجامعية السفر إلى خارج البلاد، وحصل على إذن سفر بعدما دفع نحو 700 ألف ليرة، وأودع كفالة بنكية في حساب وزارة الدفاع التابعة للنظام، وهو يعتقد أن النظام يحصل على مبالغ “هائلة” نظرًا لما لاحظه من ازدحام في المصرف العقاري، حيث يودع المكلفون الأموال في حساب حكومة النظام.
مراسيم عفو “بلا فائدة”
رغم إصدار رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عدة مراسيم عفو عن المتخلفين عن أداء الخدمة ودعوتهم لتسوية أوضاعهم ثم التحاقهم في صفوف قواته، إلا أن هذه المساعي لم تقد إلى أي نتائج إيجابية، وهو ما تؤشر عليه الحالة العسكرية لقوات النظام على الأرض، وهذا دفع النظام إلى الاستمرار بتكثيف حملته الأمنية من أجل القبض على أكبر قدر ممكن من الشباب.
وتشير آخر الإحصائيات التي نشرتها وسائل إعلام مقربة من النظام إلى أن هناك 80 ألف مطلوب لأجهزة النظام من أجل تأدية “خدمة الاحتياط” في عموم سوريا، ونحو نصف مليون شخص مطلوب للالتحاق بالخدمة الإلزامية.
ويبرر مسؤولون في حكومة النظام ورؤساء شُعب تجنيد، استمرار حملة التعبئة العامة سواء خدمة الاحتياط أو الخدمة الإلزامية بـ “الهجمة الشرسة” التي تتعرض لها البلاد، على حد قولهم، وهو ما تنفيه مصادر معارضة وتقول إن استمرار الحملة يشكل أكبر فرصة لكسب الأموال من المواطنين وذلك بسبب استمرار الرشاوى والمحسوبيات، مؤكدين أن الحملة شكلت غطاءً لكثير من الفاسدين.