سيرين عبد النور – أورفة
“لم يكن هناك مكان محدد نتوجه إليه عندما حملنا حقائبنا وقررنا الرحيل”، يصف أبو حسن قراره بالخروج من مدينة دير الزور عقب اندلاع المعارك داخل المدينة في صيف 2012، حيث كان يعمل سائق سيارة أجرة اضطر لتركها داخل المدينة بعد أن احترقت بسبب القصف.
انتهى المطاف بـ”أبو حسن” وعائلته في مدينة البوكمال الحدودية، المدينة التي كانت تضم أكثر من 116 ألف نسمة في ذلك الوقت، ويضيف “حملنا من الأغراض ما خف وزنه لأننا لم نتوقع أن تطول غربتنا، وهذا جعلنا بحاجة إلى كل شيء وزاد في المصاريف المادية التي نتحملها”.
ورغم حصول بعض النازحين على مساعدات من السكان المحليين، إلا أن جلهم يعاني من ارتفاع إيجارات المنازل وغلاء أسعار المواد، إذ توجهت مئات العوائل النازحة إلى مدن وقرى الريف الشرقي وبقيت فيها حتى الآن.
البوكمال.. ملاذ آمن
140 كيلومترًا تفصل البوكمال عن دير الزور، مسافة حافظت على المدينة سليمة وبعيدة عن آثار الحرب، عدا بعض أوجه الدمار التي تسببت بها غارات الطيران الحربي، وبقيت تشكل مصدر رعب مستمر للأهالي الذين خسروا عشرات الضحايا بين قتلى وجرحى.
وقد شكل الريف الشرقي ملاذًا آمنًا حتى تاريخ وصول تنظيم “الدولة الإسلامية”، حين بدأت أعداد السكان في تلك المناطق تتناقص بشكل تدريجي بسب ممارسات التنظيم.
ورغم ذلك يرى بعض النازحين أن التنظيم “كان خيرًا عليهم”، بحسب “أبو حسن”، الذي قال لعنب بلدي إنه حاول العمل في مجالات عدة قبل قدومه، لكنه فشل بسب المنافسة مع السكان المحليين، والحساسيات الداخلية التي نشأت في البيئة الجديدة، مضيفًا “شكّل التنظيم ضابطًا لتصرفات الناس ورادعًا لهم”.
نازحون آخرون، قالوا لعنب بلدي إن العديد من القصص والصعوبات واجهتهم في بداية نزوحهم، وخاصة أن الفصائل المحلية التي كانت تحكم المنطقة كانت تميل في أحكامها إلى السكان المحليين، وهذا جعل النازحين يشعرون بشيء من الغبن وفقدان العدل، على حد وصفهم.
محاولات للتأقلم
أربع سنوات من النزوح لم تكن كافية لتنسي أم أحمد بيتها في حي “كنامات”، الذي كان يعتبر من الأحياء المتوسطة في مدينة دير الزور، بينما تعيش اليوم مع زوجها وأربعة يافعين في بيت مؤلف من غرفتين، وتقول “لا شيء يشبهنا هنا”.
ورغم القرب الجغرافي بين دير الزور وعدد من المدن والقرى المجاورة في ريفها، إلا أن معظم النازحين من أهلها، الذين استطلعت عنب بلدي آراءهم، لم يخفوا شعورهم بالاختلاف المعيشي بين المناطق.
وأجمع الأهالي على أن الاختلاف يتجلى حاليًا “بنكهة رمضان المميزة وأجوائه الخاصة “، وينسحب الوضع على المعيشة بشكل كامل من الأسواق إلى شكل البيوت وأنماط العلاقات الاجتماعية، ويقولون إن ما يسود في الريف لا ينطبق على أهالي المدينة والعكس صحيح.
محاولات مستمرة للتأقلم يبديها الأهالي، إلا أن اختلاف اللهجة والطباع والتصرفات مايزال واضحًا، على حد وصفهم، إذ يسهل تمييز المقيم من النازح، ولطالما خلق هذا العديد من المشكلات.
وصول التنظيم إلى البوكمال قدّم عدالة جزئية وساوى بين الجميع، وخاصة النازحين الذين كان بعضهم يتعرض لمضايقات، وغالبًا ما كانت تنشأ شجارات بين الوافدين والسكان المحليين، وفق الأهالي، بينما لا تزال أم أحمد تخاف على تربية ومستقبل أطفالها التعليمي، رغم أنها تشرف على تعليمهم بنفسها في المنزل.
من يتجول اليوم في شوارع البوكمال من شارع “بغداد” إلى “المزاد” والشارع العام و”الهجانة”، يلاحظ انخفاض الحركة وقلة العابرين، رغم أن تقديرات الناشطين تؤكد وجود أكثر من 150 ألف نسمة في المدينة، بعد أن كان عدد سكانها يتجاوز 200 ألف في السنوات السابقة.
الحركة طبيعية في شوارع المدينة، إلا أنها بقيت تعاني من نقص في خدمات الماء والكهرباء، إذ يعتمد الأهالي بشكل أساسي على المولدات.
ورغم تعدد المناطق التي نزح أهلها نحو الريف الشرقي، تبقى النسبة الأكبر لأبناء دير الزور الذين يقيمون فيها منذ أكثر من ثلاثة أعوام وهو تاريخ السيطرة عليها من قبل فصائل من “الجيش الحر”، عقب “تحرير” مطار الحمدان العسكري، آخر معاقل قوات النظام في المدينة، منتصف تشرين الثاني 2012.
صعوبة في الاندماج
يؤكد علم الاجتماع على صعوبة الاندماج في المجتمعات الجديدة، وضرورة وجود وقتٍ كافٍ للتأقلم مع البيئة الحاضنة والتكيف مع طبيعة أهلها، بينما يصر العديد من السكان الأصليين الذي استطلعت عنب بلدي آراءهم أنهم قدموا ما يمكنهم لمساعدة النازحين .
أحمد العلو، أحد سكان مدينة البوكمال، قال لعنب بلدي إنه لم يكن يعي هذه المفاهيم وكان يسخر منها، “ففي النهاية نحن منطقة واحدة في الإطار العام”، كما أشار، إلا أن تراكم التفاصيل جعل الشاب يدرك اختلاف المناطق عن بعظها وصعوبة التأقلم مع بيئات جديدة.
العلو اليوم نازح مع عائلته يعيش قرب الأراضي التركية في أحد المخيمات على الشريط الحدودي، تجربة سمحت له أن يطلع على “عذابات النزوح” بشكل أكثر وضوحًا، وأضاف “رغم كل التعب والمشكلات إلا أن اجتماعنا مع بعضنا يؤنس وحشتنا ويهون علينا الغربة”.
عوائل كثيرة اليوم في ريف دير الزور تحزم أمتعتها تحضيرًا لنزوح آخر، هربًا من “بطش” تنظيم “الدولة”، وخوفًا من تزايد ضربات الطيران الحربي، فضلًا عن احتمال نشوب نزاعات جديدة في المنطقة، ما يجبرهم على الدخول في تجربة الاندماج من جديد.