حنين النقري – عنب بلدي
يُروى أن ابن بطوطة حين زار دمشق دُهش لجمالها وخضرتها وبساتينها، ولم يجد أفضل من وصف ابن جبير لها، فنقله عنه في كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وقال فيه “وأما دمشق فهي جنة المَشرق، ومطلع النور المُشرق، وخاتمة بلاد الإسلام متى استقريناها، وعروس المدن التي اجتلبناها. قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين“.
فهل مازالت دمشق مطلع النور المشرق، وخاتمة بلاد الإسلام؟ وبأي حديث ترى سيصف ابن جبير حدائقها إذا زارها بعد ثمانية قرون؟
الحدائق “محتلّة“..أين نتنزه؟
تروي السيدة أم حامد من دمشق حكاية “احتلال” الحدائق العامة من قبل عناصر الأمن و”فتيات الهوى”، كما أسمتهنّ، وهو ما يمنعها وعائلتها من النزول إليها كما سابقًا، “الحدائق لم تعد لنا ولا لأطفالنا، كيف أسمح لابنتي وابني باللعب فيها مع كل ما فيها من شبيحة ومشاهد مقرفة؟”، تتساءل بأسف.
لم تعد أم حامد تأمن على ابنيها حتى النزول للشارع وحدهما، فالمنطقة التي تقطن بها (مزة الشيخ سعد) تشهد تفلتًا أخلاقيًا كبيرًا في الفترة الأخيرة، وتدلل على كلامها بموقف تعرضت له “كنت أصطحب ابنيّ للحديقة صباحًا عندما اقتربت منا فتاة بعمر أقل من 18 عامًا بهيئة تثير الشفقة، على وجهها مكياج صاخب وثيابها مكشوفة للغاية، عدا عن شعرها المبعثر”.
تقول أم حامد إن الفتاة كان يبدو عليها الضياع والخوف، وتكمل “استوقفتني لتسألني من أين الطريق لمزة الشيخ سعد، وعندما أخبرتها أنها الآن في مزة الشيخ سعد اعتذرت بارتباك وتركتني مسرعةً، فيما بدأ ابنيّ بطرح الأسئلة عليّ وعجزت عن الإجابة، وعدنا للمنزل”.
ما بين فنادق المرجة و“حديقة” تشرين
57 سنتيمترًا مربعًا هي حصة كل مواطن سوري من الحدائق، لكن الشبيحة زاحموه هذه الحصة، فحال حديقة تشرين في دمشق لا تخفى على أحد، فإذا كانت قبل الثورة تعرف بحديقة العشاق، فقد باتت تسمية “حديقة” غير مناسبة لها اليوم حسبما يقول سهيل، (اسم وهمي لعسكريّ منشق خدم العسكرية في مدينة دمشق). يقول سهيل “لا أدري ما الذي يصيب الفتيات عندما يرين عسكريًّا، ربما كان الطمع بصحبة شخص له سلطة وسطوة، وربما كانت رغبة بتجاوز قيود الأهل مع شخص لا يمكنهم أن يمنعوه عن القيام بشيء، والبعض كنّ يرغبن بإقامة علاقة لقاء مقابل ماديّ بسبب فقرهن، وهكذا كان العساكر معي على الحاجز يتصيدون الفتيات بسهولة دون أدنى مقاومة”.
يقول سهيل إن العساكر كانوا يصطحبون الفتيات إلى فنادق رخيصة في “المرجة” بداية، لكنهم فيما بعد صاروا يتوجهون للحدائق العامة، “حديقة تشرين مقصد العساكر من كل الحواجز القريبة، فهي واسعة ويمكنهم نيل متعتهم فيها بشكل مجاني، وهكذا يمكن رؤية العساكر خلف الأشجار مع فتيات يقضون معهم متعة مؤقتة ويبحثون عن سواهم”.
وينوه سهيل إلى أن انقطاع الكهرباء ببعض الحدائق، بالتزامن مع انقطاعها في المناطق التابعة لها، كان يسهل الأمور بشكل كبير على مرتاديها، “فكل شيء يتم في العتمة، ولا رقابة على أحد”.
تشرين vs الأزبكية
تروي الآنسة فاطمة، وهي طالبة هندسة كهرباء، عن امتناعها وصديقاتها من ارتياد الحدائق العامة، وتقول “لا يمكن تخيّل ما نشاهده في الحدائق، القُبلات صارت أمرًا طبيعيًا وترينه في الشارع، أما الحديقة فهي تؤمّن عزلة أكبر، مما يسمح بتجاوز حدود أخلاقية أكبر، وهو ما يمنع العائلات التي تخاف على سمعتها من ارتياد الحدائق كما السابق”.
وتضيف فاطمة أن سمعة حدائق معينة صارت سيئة بشكل كبير، “مثل حديقة تشرين، التي يشبهها البعض بـ (بيت دعارة كبير)، كذلك حديقة الأزبكية تحت جسر الرئيس، يستحيل أن يمر الإنسان جانبها دون أن يضطر لمشاهدة مناظر خادشة للحياء، عدا عن استعراض الفتيات والشباب لأنفسهم فيها بحثًا عن راغب يذهبون معه”.
وتنوه فاطمة أن حديقة الأزبكية هي أحد الأماكن التي يجد فيها المرء شبكات من “الشواذ جنسيًا” من أعمار صغيرة، “شاهدت شلة شباب بعمر 16 عامًا يسيرون بشكل ملفت ويذهبون مع رجال أكبر منهم لأطراف الحديقة، الأزبكية لم تعد للدعارة فقط وإنما للشذوذ أيضًا”.
ليس للفقير إلا البيت
ويبدو أن الواقع في حماة ليس بأحسن حالًا من دمشق، هذا ما أخبرنا به لؤي، وهو مهندس يقيم في المدينة، إذ يقول إن ما يراه اليوم في شوارعها يتنافى مع طبيعة المدينة المحافظة والتزام أهلها الديني، “الحدائق من الدلائل الواضحة على تغيّر حال حماة وتبدل طبيعة سكانها، تجدين الفتيات بأحضان العساكر دون أن يستطيع المارة الاعتراض بشيء فحامل السلاح يفعل ما يشاء، حديقة أم الحسن خلف مبنى المحافظة أكبر مثال، فهي اليوم حكر على عناصر الأمن وعشيقاتهم”.
ويضيف لؤي أنه اعتاد اصطحاب عائلته أسبوعيًا لمتنزهات على ضفاف العاصي، ويستدرك “لكن الحدائق لم تعد مكانًا مناسبًا للعائلات وأضحت النزهة من الماضي، أخشى أن يعاكس أحد الشبيحة أختي دون اعتبار لوجودي أو كرامتي”.
ليس أمام الراغب بالخروج من المنزل سوى الذهاب إلى المطاعم، هكذا يرى لؤي، ويستأنف “وهو أمر لا يستطيع معظمنا دفع تكلفته، هكذا حرموا الفقير من أماكن الترفيه الشعبية والمجانية”.
حدائق +18
يقول لؤي إن المشاهد التي يراها تبدو أكثر إيذاء في رمضان، ويشرح “لا أتكلم عن الإفطار والتدخين فقد اعتدنا على ذلك، وإنما على أفعال الشبيحة البعيدة عن الأخلاق والتي يفرضونها علينا بسطوة السلاح”.
يروي لؤي حادثة شهدها في ثالث أيام رمضان الحالي كدليل على الحال التي أوصل النظام المدينة لها، “كنتُ أسير مع صديقي ظهرًا في منطقة الشْريعة، وهي معروفة بأحراشها الكثيفة، عندما فوجئت بعسكري ينهض من بين الأحراش ويرتدي سرواله، بصحبته فتاة تسوّي ثيابها بسرعة، صُدمت وأسرعت بالمشي، وشكرت الله أنني لست بصحبة زوجتي أو أختي لئلا ترى ما رأيت”، ويردد متحسرًا “هذه أحد أجواء رمضان في المدينة وهذا ما نخشى على أخواتنا وعائلاتنا منه”.
حديقة الأندلس
في حماة أيضًا، تروي أم حسن، وهي ربة منزل حموية، قصة جرت في شارعها، عندما كثُرت مشاهد التفلت في حديقة “الأندلس” القريبة من بيتها “كان تردد الأمن والعساكر على الحديقة يزعجنا بشدة، لكنهم بدؤوا بجلب صاحباتهم وفعل أشياء لا أخلاقية، وازدادت أعدادهم وشناعة أفعالهم لحد لم يعد ممكنًا السكوت عنه”.
وهنا ما كان من الرجال في الحارة إلا أن هجموا على الحديقة وطردوا العساكر “ضرب الأهالي العساكر وطردوهم هم وصاحباتهم، في النهاية نحن متلزمون ونخاف على أبنائنا وبناتنا، كيف يمكن أن نربيهم مع انعدام الأدب في كل مكان؟”.
لكن الانتقام جاء في اليوم التالي عندما بدأت حملة مداهمات واعتقالات في الشارع، تضيف أم حسن “اعتقل الأمن عددًا من شباب الحارة كرد فعل على نخوتهم ومروءتهم تجاه قلة الأدب، وليعطوهم درسًا في الخضوع وعدم الدفاع عن أعراضهم مستقبلًا”.
الحدائق في أرقام:
- عدد حدائق مدينة دمشق 177 حديقة مفتوحة، و772 حديقة مغلقة، حسب تصريح مدير مديرية الحدائق بسام عباس في عام
- عدد حدائق مدينة حمص 352 حديقة، منها 80 حديقة في حي الوعر، وخرج من حدائق حمص 65% عن الخدمة عقب الثورة، حسب إحصائية نشرتها صحيفة تشرين في نيسان
- تبلغ حصة الفرد من الحدائق في دمشق 57 سم2، في حين تبلغ حصة الفرد من الحدائق في الأردن 2 م2، وفي تركيا 16 م2، حسب مديرية الحدائق في دمشق.
- تبلغ مساحة حديقة تشرين 360 دونمًا، وتحتاج 60 عاملًا وحارسًا لتخديمها.
- من أصل ثلاثة آلاف عامل في حدائق دمشق خرج ألفا عامل عن العمل في ظل الحرب.