نعمة أم نقمة؟
الجمعيات الخيرية في دمشق.. رحلات مكوكيّة تحت رحمة المانحين
بيلسان عمر – دمشق
للجمعيات الخيرية والفرق التطوعية دور في محاولة النهوض بالدولة نحو مجتمع مدني، فهي تحمل عبئًا عن مؤسسات الدولة، ولكن عندما تنقلب الموازين، وتترك الحكومة الثقل على هذه الجمعيات تحت قبضتها الأمنية، تتحول المشاريع التنموية الخيرية إلى مشاريع استعباد للفئات المستهدفة، وهدر لما بقي من كرامتهم، وتسخّر الحكومة كل هذه الطاقات الشبابية الجبارة في مشاريع تشغلهم فيها، على مبدأ “منشتغل فيهم بلا ما يشتغلوا فينا”.
المعونات التي تقدم للمهجرين والنازحين في دمشق تخدم أهداف المانحين بدلًا من احتياجات المستفيدين، ففي وقت تصرف فيه الأموال الطائلة لتأمين متطلبات يفرضها المانح نفسه، هل خطر بباله يومًا أن يسأل هذه الفئات عن متطلباتها؟
كريم، مهجر من غوطة دمشق، وبعد تشجيع من جيرانه لتقديم أوراقه في إحدى الجمعيات الخيرية التي تقدم قروضًا لأصحاب المشاريع الصغيرة، كتعويض عمّا فقدوه في مناطقهم، عانى الأمرّين جراء معاملة الجمعية له، “تنسى الطلبات التعجيزية التي تضعك الجمعية أمامها، وتقف مطولًا أمام فكرة دراسة جدوى اقتصادية للمشروع المطلوب، والهدف منه، ومدى خدمته للإنسانية.. كل هذا الكلام النظري يجب أن يتوافق مع مشروعي في شراء ماكينة تصليح أحذية، أقف بها في الشوارع المزدحمة، وفي النهاية يطلبون منك ببساطة نسف كل ما سبق والخوض بما يراه المانح مناسبًا”.
الرحلة بين الجمعيات الخيرية
تبرعت إحدى الجمعيات الخيرية، المعنية بالمشاريع الصحية للطفلة ليان، لإجراء عمل جراحي تفوق تكلفته مليون ليرة سورية، بعدما خطت الأم الخطوات التالية: “ذهبت إلى أول جمعية، طلبوا مني تقريرًا طبيًا بحالة ابنتي، وعندما أظهرته لهم، رفضوه، وطلبوا إعادة التقرير من قبل الطبيب المتعاقد مع الجمعية، وكتب تكلفة العملية برقم يزيد عن الرقم الذي سبق وكتبه طبيبها الأول، وعندما عدت إليهم، وتفاجؤوا بفارق الرقم، عادوا إلى طبيبي، وتركوا كلام طبيبهم الذي يثقون به كثيرًا كما أقنعوني في أول زيارة”.
نظام الجمعيات يكفل العمليات الجراحية باهظة الثمن بمبلغ 50 ألف ليرة سورية فقط، وعلى المريض أن يجوب الجمعيات ليجمع منها المبلغ المطلوب، تقول الأم “بدأت رحلتي الطويلة بالبحث عن مقرات الجمعيات، ولكل جمعية نظامها الخاص، ونادرًا ما يتم استقبال المراجعين في الداخل، الكلّ يركنهم كالأغنام خارجًا، يعانون الحر والقر، ناهيك عن أن الوقوف بهذه الطوابير يستغرق أشهرًا، وقد يصلك الدور بعد قدومك عدة مرات، ليعتذروا منك بالنهاية بحجة أنهم لا يغطون هذه الحالة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء توضيح الحالات التي تغطيها الجمعية كي لا يذهب انتظار الناس هباءً”.
رفضت إحدى الجمعيات تقديم المبلغ للأم لأنها مهندسة، مع أنها لا تعمل بشهادتها، والحُجة “مو مبين عليك أنك محتاجة مساعدة”، وانتهى الأمر بأن تكفلت إحدى الجمعيات بكامل المبلغ من قبل متبرع، بعدما طلبت من الأم تصوير مقطع فيديو لليان، وهي تناشد المتبرعين وتصف لهم حالتها، لتستجدي عطفهم، “أخبروني أنه بعد العمل الجراحي يعيدون تصوير المقطع وهي تشكرهم، والأجدى أن يتم التصوير في المشفى، فهو أكثر إثارة لشفقة المتبرع”.
تفريق الناس بالرصاص والشتائم
أطلق صندوق العافية قبيل شهر رمضان حملته في توزيع سلل غذائية، كوجبات داعمة في شهر الصيام، ليبدأ الناس من كل حدب وصوب بالزحف نحوه، وروى أكثر من شخص ما حدث أثناء وجوده، كحال فراس، وهو مهجر من دير الزور، يقول “وصلت إلى مقر الجمعية في الميدان/غواص مع أذان الفجر، لأجد مئات سبقوني، وعندما سألت أحد الواقفين أكد لي أنه نام ليل اليوم السابق قرب الجمعية كي يصل مبكرًا، ومع ذلك لم يحالفه ولا أنا الحظ لأخذ السلة الرمضانية”.
ومع كل هذه الحرب، فليس غريبًا أن يستخدم النظام السوري الرصاص لتفريق جموع الناس هناك، فقد روت سوسن، المهجرة من درعا، “فاق عدد منتظري السلل الرمضانية الآلاف، وعندما بدأ الجدل بين الناس حول الاصطفاف ودورهم، ومن أتى أولًا ومن دخل دون دور، قامت عناصر الأمن التي تنظم المكان بإطلاق رصاص في الجو، لتفريق الواقفين، وحل النزاع بينهم، ومع ذلك بقي الناس واقفين”.
وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لتجمع مئات المواطنين في حي الميدان، في التاسع من حزيران 2016، مؤكدين أن أعضاء في جمعية خيرية خرجوا حاملين مكبرات صوت وبدأوا بالصراخ والشتائم والتهديد بوقف التوزيع وتأخيره، إن لم يطع المنتظرون أوامرهم.
في نظر أم هيثم، المنحدرة من المليحة، فإن الشخص الذي لا يقف أمام أبواب الجمعيات سوف يحاسب عن إهماله لحقه، ويعتبر شيطانًا أخرس، “سرقوا بيوتنا، وحرقوها، ودمروها، وأخرجونا منها بالقوة، فمو كتير عليهم أنو يفتحوا جمعيات يوزعوا فيها معونات ومنظفات ولباس، وكل جاراتي بجبرهن يروحوا وما يتركوا المعونة، جاية ع اسمنا، وإذا نحن ما طالبنا فيها سلامة النصابين”.
فصل العائلات من الجمعيات
ضمن الخطة الجديدة للنظام السوري، طُلب من كل عائلة مستفيدة بالجمعيات أن تحضر أوراقًا ثبوتية (صورًا عن دفتر العائلة، وبيانًا عائليًا يتم تجديده كل ثلاثة أشهر، وعقد إيجار للمنزل، وصورة عن آخر فاتورة كهرباء وماء مدفوعة، وشهادة وفاة للأب إن كان متوفىً، أو بيان مفقود إن كان معتقلًا، وهذه الورقة بحد ذاتها سلسلة طويلة من العذاب، تنتهي بالرفض غالبًا)، وكل من لا يستكمل أوراقه يتم فصله من الجمعية.
السيد أبو أكرم، عضو مجلس إدارة في إحدى الجمعيات الخيرية في دمشق، يقول لعنب بلدي “في الآونة الأخيرة بات شغل الناس الشاغل ارتياد الجمعيات الخيرية، وبتنا نجد المستفيد مسجلًا في أكثر من جمعية بآن واحد، وهو بذلك يأخذ مكان غيره، فأصبحنا نطلب من كل مستفيد أن يحضر الأوراق الثبوتية السابقة، مع طلب إلغاء من الجمعيات المذكورة، والإبقاء على جمعية واحدة فقط، حسب مكان سكنه”.
ويضيف “نعمل جاهدين على إجراء تشبيك بين الجمعيات لحصر هذه الحالات، وأن يتم التسليم لصاحب العلاقة حصرًا، وقمنا بإلغاء أسماء العائلات التي لا أولاد لها، أو أنهم فوق السن القانوني، كما تم فصل العائلات اللواتي تم تسجليهن من قبل موظفي الجمعية وثبتت عليها تهم الفساد والسرقة”.
“شحادة” باسم المهجرين
دخلت إحدى السيدات، وجلست تبكي، وتندب حظها العاثر، وبيتها المدمر، وحاجتها الماسة لعلاج وكساء، وهي تردد عبارة: “أنا طالعة هلق من داريا، قطعت 11 حاجز لوصلت لعندكم، ساعدوني ما لي غيركم بعد الله”.
“دوت هذه العبارة في أذني”، تقول ريم وهي متطوعة في إحدى الجمعيات من داريا، مستغربةً “يوجد فارق كبير بين لكنتها، ولهجة أهالي داريا، فبادرت وسألتها: خالة حضرتك من داريا، وهي تؤكد مع كل سؤال أنها خرجت من داريا لتوها، والدهشة تصيبنا جميعًا، فمن أي طريق لها أن تخرج”.
وبعد أخذ ورد، تبين أنها من أهالي كفرسوسة وتقطن قرب مفرق داريا، و”المصيبة أنها تشحد، بكل معنى الكلمة، باسم أهالي داريا”، تقول المتطوعة.
يتكرر المشهد ذاته أمام جامع زيد بن ثابت، في شارع خالد بن الوليد، إذ تجلس إحدى النسوة مع أطفالها، وتنادي: “والله نحن من داريا، ساعدونا الله يساعدكم”، وتردّ ريم التي عاينت الموقف “أضعف الإيمان أن تتكلم لهجتهم طالما أنها تدعي أنها منهم”.
بين مدن النظام والريف المحاصر
أينما ولّيت وجهك في المناطق الخاضعة للنظام السوري بقبضته الأمنية الحديدية، تتهافت أمامك أسماء جديدة لجمعيات خيرية، وتجدك منخرطًا في مبادرات شبابية تطوعية، إما عن طريق الإعلانات المقروءة أو المسموعة، كما تجد “بوسترات، إيفنتات، لوغويات، سبونسرات” تملأ “فيس بوك”، و”واتساب”، و”تويتر”… وكلها تعمل تحت خطوط عريضة من قبيل ” المواطنة الفاعلة، وتمكين الشباب من المشاركة في الحوار والمصالحة والوساطة وبناء السلام، و تأمين الأدوات المطلوبة لمواجهة التحديات في مجتمعاتهم، ودعم الشباب لدخول سوق العمل.
كل هذا التمدّن في دمشق وجزء من ريفها، التي تفصلها أمتار عن غوطتيها الشرقية والغربية وبقية الريف الدمشقي المحاصر، وتظلهما سماء واحدة تمطر صواريخ أسدية على ذاك الريف، في حرص من الحكومة السورية على أن تظهر ذاتها بأبهى حلّة من التحضّر.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :