تقول منظمة العفو الدولية، إن قوات النظام السوري تحاصر 250 ألف سوري في مختلف المدن السورية التي خرجت عن سيطرته، وتقول أرقام الأمم المتحدة إن ما يقارب من 400 ألف سوري يرزحون تحت حصار خانق تفرضه القوات المتحاربة على الأرض، ورغم تحريم القانون الدولي لأساليب استخدام الغذاء كسلاح في الحروب واعتباره جريمة حرب موصوفة إلا أن قوات النظام السوري ماتزال تحاصر آلاف السوريين وتهدد حيواتهم، في ما بات يعرف بأنها “عقوبات جماعية” أشبه بتلك التي نفذتها قوات هتلر في الحرب العالمية الثانية.
تنص وثيقة إعلان روما لعام 1996 بشأن الأمن الغذائي العالمي “إنّ الغذاء لا ينبغي أن يستخدم أداة للضغط السياسي والاقتصادي”.
كانت الزراعة المتضرر الأكبر من فرض الحصار على المدنيين، فقد انتشرت الأوبئة وارتفعت أسعار البذور، ووصل سعر بذرة الكوسا في الغوطة الشرقية إلى 10 سنت/دولار.
ولمواجهة ذلك بات حريًا بالمواطنين المحاصرين البحث عن بدائل من أجل تأمين حاجاتهم الأساسية من الغذاء، فلم يكن أمامهم إلا الزراعة، فقد منع النظام كل شيء عنهم، سرعان ما استقطب هذا المجال الأهالي، وباتت الزراعة تمتص القوى العاملة العاطلة، وهنا برزت مبادرات وتجارب جديدة، أبطالها مواطنون ومستثمرون ورواد أعمال، أطلقوا مشاريع في مناطقهم المحاصرة وحققت نوعًا من الاكتفاء الذاتي، رغم أن المسيرة شابها منغصات فرضتها واقع الحرب سواء في حمص أو غوطة دمشق الغربية والشرقية ومؤخرًا في حلب المدينة.
مزارعون “كبار” يطلقون تجارب استثمار في المجال الزراعي بالغوطة الشرقية
تغير واقع الزراعة في الغوطة الشرقية لدمشق، بشكل سلبي وكبير جدًا، لجهة عدم استقرار أسعار مستلزمات المنتجات الأولية، وتأرجح أسعار صرف الليرة، وكذلك تدني قيمة المحاصيل الزراعية.
وقد عزز غياب الحكومة المؤقتة وعدم تدخل هياكلها بالشكل المطلوب من المشكلة، فبرزت الأسواق السوداء للبذار، وتشتتت جهود الفلاحين بسبب عدم القدرة على تسويق المحاصيل االزراعية، وتمت منافسة المزارع من قبل بعض بعض المؤسسات والمشاريع التي تدعي أنها تنموية، كما يقول مزارعون.
وللمستثمر ورائد الأعمال حسام محمد، من الغوطة الشرقية، تجربة “فريدة” على مستوى الاستثمار في مجال زراعة القمح بالمنطقة المحاصرة، رغبةً منه في عدم إخراج أمواله إلى الخارج وتدويرها في عمل زراعي يعود بالفائدة عليه، كما يقول في حديث مع عنب بلدي.
استثمار “لا جدوى منه”
تتملك المستثمر قناعة مفادها أن الاستثمار في قطاع الزراعة “ليس ذا جدوى” خلال هذه الفترة، وذلك بسبب “طول فترة الاستثمار الزراعي من أجل جني المحصول، والتي لا تقل عن ستة أشهر، وارتفاع مستويات التضخم وتدني الليرة السورية، والجفاف، ورخص المحصول حيث تبلغ كلفة كيلو القمح 0.55 دولارًا في حين أن سعره اليوم في السوق النظامية 0.35″، لكن الرغبة بالعمل وإيجاد فرص عمل للآخرين هو “ما حفزني على البقاء والاستثمار في زراعة القمح وغيرها في الغوطة”.
من وجهة نظر المستثمر محمد، وكونه يريد الاستثمار في مشروع يعود بالفائدة عليه وعلى من شاركه به، هناك عدة عوامل في الغوطة الشرقية تؤدي إلى تضييق الخناق على الفلاحين أو المزارعين وعلى كل من يفكر بالعمل الزراعي رغم أن التربة الخصبة والظروف متوفرة وتساعد كثيرًا مقارنة بمناطق أخرى.
يوضح محمد ذلك بقوله “تشهد الغوطة الشرقية منافسة للفلاح من قبل مشاريع بعض المؤسسات التنموية، ومن بينها مشاريع لبعض المجالس المحلية، مثلًا زرعت إحدى المؤسسات في العام الماضي عشرات الدونمات بصنف الملفوف، ما أدى إلى ارتفاع أسعار البذار، وكان يفضل أن تستثمر هذه الأراضي بمنتجات أخرى، وبالتالي لم يستفد المستهلك من هذا الصنف كونه ثانويًا وليس أساسيًا، فخسرت المؤسسة مبالغ كبيرة، وكان الأحرى بها الاستثمار في مجالات أكثر نفعًا”.
ويضاف إلى ذلك “السياسات التي تعمد إلى منافسة ومضايقة الفلاحين أصحاب المشاريع الكبيرة والمتوسطة، والدعم للفلاحين أصحاب المشاريع المتناهية الصغر، في حين أن الاقتصاد الزراعي يبنى على الفلاحين أصحاب المشاريع الكبيرة والمتوسطة فهم الأكثر خبرة والأقدر على ضبط الهدر وحسن إدارة المشروع الزراعي”.
مستثمر: المجالس المحلية لا تتعاون مع المزارعين “الكبار”
لا تتعاون المجالس المحلية بشكل “ملموس” مع المزارعين أو المستثمرين أمثال محمد، ويقتصر أداؤها، على حد وصفه، على “توزيع جزء يسير جدًا من الأدوية الزراعية بسعر مدعوم، أو مجانًا، وتكون الكمية محدودة جدًا”، فلا يستفيد الفلاحون أصحاب المشاريع المنتجة منها، يقول “تم الإعلان عن توزيع مبيد لفئران الحقل في أحد المجالس المحلية، وبسبب معاناتي في مشروعي الذي تبلغ مساحته 250 دونمًا من هذه الآفة، قمت بمراجعة المجلس لأجد الرد بأن المجلس لا يعطي “الفلاحين الكبار، بل يعطي الفلاحين الذين يزرعون دونمًا أو دونمين، ولم أحصل على أي كمية”.
حالة المستثمر حسام المحمد، وتجربته في الاستثمار في هذا المجال توضح العراقيل التي أدت إلى توقفها أو ثبطت مسيرته في هذا المجال، كونه مستثمرًا ومن الطبيعي أن تكون طاقته على الزراعة أكبر ورغبته بالمغامرة وتوفير يد عاملة أعلى، لكن في المقابل ماتزال آلاف العائلات تعتمد الزراعة سبيلًا للحياة والمعيشة في مناطق الحصار ضمن الغوطة والتي تشهد سوقًا كبيرة وفيها عرض وطلب ومنافسة أيضًا.
لكن الغوطة الشرقية وكغيرها من المناطق السورية المحاصرة تشتكي نقص مستلزمات الزراعة وعلى رأسها الأسمدة الصناعية (يوريا، سماد متوازن)، فهي معدومة بشكل كامل، أما السماد الطبيعي (مخلفات الحيوانات) فهي قليلة جدًا ونادرة ومكلفة إذ يبلغ سعر المتر المكعب أكثر من خمسة دولارات وهو سعر مرتفع جدًا مقارنة بأسعار القمح، (خمسة دولارات تشتري أكثر من 14 كغ قمح).
ويعاني المزارعون في الغوطة الشرقية من نقص المبيدات الحشرية وغلاء سعرها، وغياب حملات المكافحة على نطاق واسع، ما أدى إلى انتشار الأوبئة وتفاقمها، مثل حشرة “السونة” التي تتغذى على القمح والشعير في “الطور الحليبي” التي قد تفقد المزارع 90% من إنتاجه فيما لو انتشرت.
ارتفاع أسعار المحاصيل يغري المزارعين باستمرار الزراعة
زرع عبد الله الشامي، وهو مزارع ومهتم بالاستثمار في مجال الزراعة في الغوطة الشرقية، هذا العام نحو 20 دونمًا من الفول، وكان له مشروع يعمل فيه 50 عاملًا من قبل، باستخدام مواد بذار وأسمدة، متوفرة لديه من الأعوام الماضية، وأمّن المبيدات عن طريق التجار في السوق السوداء بأسعار مرتفعة جدًا.
ويعتبر الشامي أن الاستمرار بالعمل الزراعي، “ضرورة وجود”، وهي، أي الزراعة، ليست مجرد نشاط، لأنه لا يمكن الاستمرار بالغوطة دون هذه المحاصيل، “لذلك يجب الاستمرار بالعمل الزراعي.. السوق بحاجة لقدر أكبر من الزراعات”.
ويوضح المزارع أن “واقع الزراعة في منطقته تغير خلال هذه الفترة مقارنة مع ما قبل الثورة، وعلى العكس كان لارتفاع أسعار المنتجات الدور التحفيزي لزراعة كل الأراضي بالغوطة، حيث سعى المزارعون إلى تأمين البذار والمستلزمات وبدؤوا بالزراعة أملًا بتحقيق أرباح”. ويعترف الشامي بأن نسبة المخاطرة كبيرة جدًا الآن لمن يرغب بالزراعة، فالسوق “غير مستقرة، وهنالك تذبذب في إنتاجية المحاصيل، وكذلك ينقص الفلاحين الدعم عبر المجالس المحلية التي تتعاون مع مؤسسات”، على حد قوله.
وكذلك يشكل غياب المحروقات أحد أهم العوائق التي تحد من تطور الزراعة في الغوطة، إلى جانب نقص الآليات والجرارات وغيرها والتي يتكفل تجار السوق السوداء بتأمينها بأسعار كبيرة جدًا”.
ومع ارتفاع نسبة البطالة وتعطل الآلاف من الشبان عن أعمالهم الأساسية، ولجوئهم إلى الزراعة، تبرز الحاجة إلى رفع كفاءة اليد العاملة في الغوطة وغيرها من المناطق المحاصرة، بعد أن دخل إلى مجال الزراعة من لم يكن يعمل بها من قبل تحت ضغط الحاجة.
تابع قراءة الملف الموسع: زراعة سوريا.. “قاطرة نمو” ترجع إلى الخلف
الزراعة السورية.. تتحول من باب للاستثمار إلى سبيل للبقاء
سوريا وإفريقيا.. خطط دولية لإفقار الشعب السوري
انتعاش التجارة بين “الدويلات”السورية وتسلط العسكر على الفلاحين
الزراعة في مناطق المعارضة.. “إدارة مدنية وحماية عسكرية”
منظمة الـ “FAO” ترفض التعامل مع المعارضة كليًا وتخصص الدعم للمنظمات
المناطق المحاصرة.. بيع البذار بـ “الحبة” وانتعاش السوق السوداء
النظام ينهي الزراعة في داريا بعد السيطرة على 300 دونم من أراضي المدينة
شبح حصار مدينة حلب يدفع الأهالي لزراعة الأحياء السكنية
حي الوعر الحمصي.. زراعة الحدائق وشرفات المنازل من أجل البقاء
محصولا القطن والشوندر السكري ينقرضان في إدلب
محافظة حلب: زراعة القمح تدهورت والقطن انقرض
صراع بين النظام والمعارضة على ما بقي من قمح سوريا.. من يدفع أكثر؟
“نقص السيولة” يهدد “مؤسسة إكثار البذار” بالتوقف نهائيًا
مجلس محافظة حلب يستثمر أراضي مركز “إيكاردا”
درعا: أسواق الهال تتحول إلى مراكز تجميع خردة.. والفلاحون بلا أراضي
زراعة العنب ومشاتل الورود تتوقف في داريا.. والتفاح يتراجع في القلمون
تأسيس أول معهد أكاديمي في المناطق المحررة لتعليم “التكنولوجيا الزراعية”
النظام “يكسر الحصار”ويستأنف تصدير التفاح والحمضيات
استطلاع رأي: الزراعة ستستمر لأنها قوت غالبية السوريين
بعد تلاشي وزارة الزراعة المؤقتة.. مكتب التعاون الزراعي “أول كيان مؤسساتي”لدعم الفلاح السوري