طريف العتيق
بدأنا منذ شهرٍ مضى، الحديث عن كيف يكون تفكيرنا علميًا؟ ما هي سمات هذا النوع من التفكير؟ ومن الممكن القول بأنّ هذه الخصلة (التفكير العلميّ) هي أشدّ ما نحتاجه اليوم، وهي أهم ما يمكن أن يصنع فارقًا في مجتمعنا، يخدم كلّ الأصعدة.
وسنتحدث في هذا العدد عن السمة الأخيرة لهذه العقليّة، ألا وهي «التراكم» و «الشموليّة».
فالشموليّة صفة فرديّة، تعني بأن يهتمّ الإنسان بامتلاك ثقافة عامّة، وأن لا يكتفي باختصاصه الدقيق من جهة، ومن جهة أخرى أن تكون ثقافته العامّة نفسها شاملة لكل مناحي الحياة، فلا يقتصر في قراءته واطلاعه على لونٍ واحد، أو ألوان محدّدة، كما لا تقتصر على مدرسة واحدة، أو توجّه بذاته، بل كلّما كان شموليّ التوجه والسعي، كلما نال حظًا أوسع من العمق والفهم والصواب.
والشموليّة تكون في «النوع»، فهناك الثقافة الإسلاميّة (علوم القرآن وعلوم الحديث مثلًا)، والثقافة التربويّة (التعامل مع الأطفال، المراهقين، مهارات التعليم الخ)، والثقافة النسائيّة والاجتماعيّة (قضايا وحقوق المرأة، الأسرة، المشاكل الاجتماعيّة)، والثقافة التاريخيّة، الثقافة الفكريّة والفلسفيّة (قضايا الفكر الإسلاميّ، التجديد الدينيّ، الحضارة، المنطق، الفلسفة، الحركات الإسلاميّة الخ)، الثقافة الأدبية (القصص والروايات، الشعر، الثقافة اللغويّة)، الثقافة التنمويّة (التغيير الشخصي، القيادة، كيف نفكّر، الإبداع، نمط الحياة)، بالإضافة إلى الثقافة الاقتصاديّة والسياسيّة والصحيّة.
وقد يظنّ البعض أنّ هذا شيئًا مستحيلًا، وهو ليس كذلك، لكنّه يتطلّب جهدًا أكثر من ذاك الذي يرغب أن يعيش على هامش الحياة، فلا يوجد عقل متميّز لم يبذل صاحبه جهدًا طويلًا ودؤوبًا يستمر لسنواتٍ طويلة (وهو جهد ممتع ولذيذ)، ولا يعني ذلك أن يكون المرء متخصصًا في كلّ ما سبق، لكنّ قراءة كتابين أو ثلاثة من النخب الجيّد في كلّ مجال تكون كافيّة كخطوة أولى وجيّدة، وربّما من الصعب تقديم رقم دقيق فنوعيّة الكتب تلعب دورًا كبيرًا، لكن تكوين الأرضية المناسبة والشاملة تحتاج ربّما إلى قراءة ما يقارب لمئتي كتاب تشمل كلّ ما سبق.
وكما تكون الشموليّة في النوع، تكون في «الوسيلة»، كالكتاب، والجريدة، وشبكة الإنترنت، والأفلام الوثائقيّة، ودروس العلم في الحلقات، والنقاشات.
والشموليّة تشمل المدارس الفكريّة، إذ يكون المرء مستقلًا، غير متحزبٍ ولا منتمٍ بشكل مطلق، فاطلاع الإنسان على مختلف الآراء يمكّنه أن يكون أقرب ما يمكن من الحقيقة وأن يكّون رأيّه الخاص، وبذا ينجو من العصبيّة والتحزّب ويكون منفتحًا. فغالبًا ما تكون الثقة الشديدة بفكرة ما ناتجة عن عدم الاطلاع على الرأي المضاد، ويلاحظ بأن الناس الأكثر يقينًا هم أكثرهم جهلًا.
أمّا التراكميّة فهي صفة جماعيّة، وتعني الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى، وأين وصلوا، كيف يحلّون مشاكلهم، ما الذي أجدى نفعًا معهم، وما الذي لم يجدي، وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجارب… إن الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى يمكن أن يوفّر علينا تجريب ما لا ينفع.
وكلّ من صفتي الشموليّة والتراكم يتطلبّان أن يهتم المرء بتحصيل لغة أجنبيّة بالإضافة إلى لغته الأم، فإنها تفتح له آفاقًا جديدة بشكلّ لا يصدّق، وبدونها يصعب حقيقة بناء ذهنيّة منفتحة بمعنى الكلمة.
كما تعتبر المشافهة (التثقف في المحاضرات والدروس) واحدة من أهم الوسائل التي تختصر على المرء جهدًا وقراءات كبيرة في وقت قصير، فلا ينبغي إهمالها البتّة.
العقلية العلميّة، عقلية متسائلة، تبحث عن الأسباب الحقيقية، منظّمة، وتسعى دومًا للشموليّة والتراكم، وهذا لا يلغي سمات أخرى لم يشملها الحديث، كالموضوعيّة، والنزاهة، والحياد في بداية البحث، لكنها أكثر شيوعًا من تلك التي ذكرناها.
للاستزادة يمكن العودة إلى كتاب «التفكير العلميّ» للدكتور فؤاد زكريا، أو لكتاب «صناعة المفكّر» للدكتور عبد الكريم بكّار.