هدن روسية “كاذبة” في سوريا.. والأمم المتحدة في قفص الاتهام

  • 2016/06/19
  • 5:11 ص

لم يرَ سكان حلب الشرقية أو ريف المحافظة بالعموم من الهدنة التي أعلنتها روسيا قبل أيام سوى اسمها، فما إن أُقرّت حتى استأنف النظام قصف ودكّ الأحياء والبلدات الخارجة عن سيطرته، ليتساءل أحد ناشطي المحافظة: هل الهدنة هي إعلان معركة بالمفهوم الروسي؟

إذن هي هدنٌ “كاذبة”، اتفقت شريحة واسعة من السوريين على تسميتها هكذا، فلا ملامح جديّة للتهدئة في أي منطقة شملتها، مع استمرار سياسة “النظر بعين واحدة” إلى “خروقات” المعارضة، وغض البصر كليًا على “جرائم” النظام، فتخرج وزارة الدفاع الروسية ببيان تثني فيه على الالتزام بهدنة حلب، في وقت شهدت فيه المحافظة غارات امتدت إلى نحو 30 حيًا وبلدة.

ولا يبدو في واقع الأمر أن الأمريكيين على رِضا وقناعة بسياسة أندادهم الروس في سوريا، ولا سيما حين صرّح وزير خارجيتهم، جون كيري، بأن صبر واشنطن بدأ ينفد حيال الانتهاكات التي تنفذها قوات الأسد في الشمال السوري، تزامنًا مع تصريحات هي الأولى من نوعها تصدر عن الخارجية، معلنة أن موسكو استهدفت قوات سورية تدربها واشنطن.

ورغم ضبابية الوضع السوري والتعقيدات المتزايدة بعد خمسة أعوام على بدء الاحتجاجات، إلا أن نجاح القوافل الغذائية في دخول المدن والبلدات المحاصرة أعطى بارقة أمل جديدة، فداريا شهدت أول قافلة إنسانية منذ أربعة أعوام، كذلك دخلت قوافل خجولة إلى حي الوعر ومناطق في ريف حمص والغوطة الشرقية، بانتظار حلول مماثلة لأحياء دير الزور المحاصرة.

لكن نجاح الهيئات الأممية بدخول هذه المناطق لم يكن كافيًا أمام 55 منظمة سورية كانت تعدّ تقريرًا يكشف حجم تواطؤ مكتب الأمم المتحدة في دمشق مع النظام السوري، بأرقام تدين فعليًا الدور الأممي في سوريا وتجعله في قفص الاتهام، أو الشريك الحقيقي للأسد في تجويع وقتل الشعب السوري.

هدنٌمصطنعةدون تطبيق

عقب انهيار اتفاق التهدئة، الذي أقرته الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا أواخر شباط الماضي، سعت موسكو إلى فرض وصاية على مجريات الواقع الميداني في سوريا، وعهدت لضباطها في قاعدة حميميم الجوية بمراقبة سير اتفاقيات التهدئة، التي أعلنتها أكثر من عشر مرات في عدد من المناطق السورية، لم يكتب لجميعها النجاح، وكأن النظام السوري خارج إطار أي اتفاق.

الحالة الأبرز في سوريا كانت مدينة داريا في ريف دمشق الغربي، والتي شهدت هدوءًا ملحوظًا منذ هدنة أواخر شباط وحتى منتصف أيار الماضي، حين عاودت قوات الأسد استهدافها بالمدفعية والصواريخ، ليتطور المشهد إلى سلاح الجو والبراميل المتفجرة التي خبرتها المدينة طيلة عامين.

مطلع حزيران الجاري، أعلنت روسيا عن هدنة جديدة في داريا مدتها 48 ساعة، على أن تمدد بإشراف “المركز الروسي للمصالحة” في قاعدة حميميم الجوية، سعيًا لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين بشكل آمن.

لكن الوقائع سارت عكس ذلك، فرغم دخول قافلة غذائية إلى داريا إلا أن المجريات الميدانية بدت أكثر تعقيدًا، من خلال إمعان النظام بقصف المناطق السكنية، وازدياد ملحوظ بعدد البراميل المتفجرة الملقاة عليها، والتي وصلت إلى نحو 150 برميلًا متفجرًا في غضون أسبوع واحد، عدا عن الأسطوانات المتفجرة ومحاولات الاقتحام المتكررة بشكل يومي.

في هذه الأثناء لا تجد موسكو حرجًا بتمديد الهدن المؤقتة في داريا كل يومين، آخرها تنتهي الساعة 24:00 من يوم السبت 18 حزيران، وفي ذات الوقت تغطي قناة “روسيا اليوم” مجريات المعارك في محيطها، وتقول في تقرير لها، الخميس 16 حزيران، إن “الجيش السوري يحرز تقدمًا في محيط داريا”، فعن أي هدنة يتكلم الروس؟

الهدن “المصطنعة” في الجنوب، قررت روسيا نقلها إلى محافظة حلب، المنطقة الأخطر في العالم، ذات المواجهات والحسابات المعقدة، لتعلن وزارة الدفاع الروسية بشكل منفرد عن هدنة فيها تبدأ بتاريخ 16 حزيران ولمدة يومين، دون تحديد الجهة التي توافقت مع موسكو بشأن تطبيقها، ثم ليعلن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن بلاده تريد “وقفًا لإطلاق النار طويل الأمد” في حلب.

أيضًا هنا، كان الموقف مشابهًا إلى حدٍ بعيد لما جرى في داريا، وكأن النظام السوري والميليشيات على الأرض خارج نطاق ما أعلنته روسيا، فاستمر التصعيد الجوي والبري على الأحياء الشرقية الخارجة عن سيطرة الأسد، إلى جانب عشرات القرى والبلدات من ثلاثة محاور، فرصدت عنب بلدي في اليوم الأول لإعلان الهدنة عشرات الغارات بالصواريخ الفراغية والعنقودية والفوسفورية والبراميل المتفجرة، ضربت نحو ثلاثين نقطة في المدينة والريف.

كذلك لم تتوقف المواجهات بين فصائل المعارضة من جهة وقوات الأسد والميليشيات الأجنبية من جهة أخرى، من محورين رئيسيين، الشمالي والجنوبي، حيث يسعى النظام السوري لاستكمال مخططه الرامي إلى عزل أحياء المعارضة من خلال السيطرة على منطقة الملاح شمالًا، في محاولات يومية تصاعدت منذ مطلع حزيران الجاري، كذلك فإن فصائل “جيش الفتح” مستمرة في عملها جنوب المدينة فوسّعت رقعة سيطرتها في محيط خان طومان، وعززت وجودها على حساب الميليشيات الأجنبية التي تلقّت خسائر بشرية كبيرة.

حرب باردة أمريكية روسية

حرب بيانات وتصريحات بين واشنطن وموسكو استبقت إعلان الهدنة في حلب، بدأها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، بالقول صراحة إن مخزون بلاده من الصبر بدأ ينفد تجاه النظام السوري وروسيا على حد سواء، الأمر الذي اعتبره مراقبون بداية توتر ملحوظ بين البلدين.

وقال كيري في مستهل زيارته إلى النرويج، الأربعاء، إن “روسيا يجب أن تدرك أن صبرنا ليس غير محدود، وهو محدود جدًا فيما يتعلق بمحاسبة الرئيس السوري بشار الأسد”. وذهب الدبلوماسي الأمريكي أبعد من ذلك حين اتهم موسكو والأسد على حد سواء بتطبيق “وقف الأعمال القتالية” بشكل انتقائي، مشيرًا إلى أن النظام يحاول مرارًا استعادة حلب.

ولم يتوان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن الرد مباشرة على تصريحات نظيره، حين ألمح أن الروس لا يتبنون إسقاط الأسد، وأن تعثّر المفاوضات تتحمله الولايات المتحدة وليس روسيا، باعتبارها طرفًا ضامنًا للمعارضة، مشيدًا بالتحسن الملموس على الأرض من خلال الهدن السارية رغم الخروقات، وتأمين القوافل الإنسانية إلى المناطق المحاصرة.

لافروف، والذي يصفه محللون بـ “الثعلب”، مرر في تصريحاته تشكيكات روسية في دعم خفيّ تقدمه واشنطن لـ “جبهة النصرة” لإسقاط النظام السوري، قائلًا “يتكون لدي انطباع بأن هناك لعبة ما تجري، وهم ربما يريدون الحفاظ على النصرة بشكل ما ومن ثم استخدامها لإسقاط النظام”، مبديًا اندهاشه من “عجز الأمريكيين عن إجبار فصائل المعارضة التي يدعمونها على الخروج من المناطق الخاضعة لسيطرة الإرهابيين”.

جون برينان، مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA)، ذهب هو الآخر في انتقاد سياسة الروس في سوريا، مؤكدًا أن الغارات الجوية التي نفذتها روسيا في سوريا كانت موجهة ضد من تصفهم الولايات المتحدة بـ “المعارضة المعتدلة” للنظام السوري، وذلك خلال جلسة استماع أمام الكونغرس، الخميس، عقب تقارير ميدانية أكدت أن طائرات روسية أغارت فعلًا على مواقع تابعة لـ “جيش سوريا الجديد” في منطقة التنف، موقعة قتلى وجرحى في صفوف جنود الفصيل المدعوم أمريكيًا وبريطانيًا.

تدّعي روسيا على الدوام أن هناك إشكالية في معرفة الفصائل “المعتدلة” من تلك “الإرهابية” في سوريا باعتبارها تقاتل جنبًا إلى جنب، ما يجعل التمييز بين الطرفين صعبًا، وهو التبرير الذي قدمه الكرملين لاستهداف “جيش سوريا الجديد”، رغم أن تلك المنطقة خالية من أي فصائل أخرى سوى تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي تعد مواجهته هدفًا لإنشاء هذا التشكيل.

يرى مسؤولون أمريكيون ضرورة في شن هجمات جوية على مواقع تابعة للنظام السوري، كإجراء عقابي لعدم التزامه بأي مسار يفضي إلى حل سياسي للمعضلة السورية، وهو ما تكرر مؤخرًا في أروقة الكونغرس، الأمر الذي قوبل بتحذير روسي من أن ذلك سيدفع المنطقة برمتها إلى الفوضى.

تبادل الأدوار في سوريا بين قطبي العالم، روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم الانتقادات المتبادلة وتكرار تصريحات المسؤولين الأمريكيين في الاتهامات المباشرة للنظام السوري، بات أمرًا اعتياديًا بنظر الناشطين السوريين، الذين باتوا يرون في واشنطن شريكًا للروس في إطالة أمد الصراع وبقاء الأسد في الحكم، بعدما أداروا ظهرهم للجرائم والممارسات المرتكبة بحق ملايين السوريين، باتجاه هدف واحد وهو القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”.

الأمم المتحدة ترى نقطة تحوّلفي دخول المساعدات

لم تغيّر الأمم المتحدة من سياستها تجاه منع النظام السوري دخول مساعداتها الإنسانية إلى المناطق المحاصرة في سوريا، إذ ماتزال قوافلها تعود أدراجها في حال قرر نظام الأسد منعها من الدخول فارضًا شروطه، التي لا مبرر لها إلا الاستمرار في تطبيق سياسة الحصار والإخضاع، والتي طالت أهالي المناطق المحاصرة وفرق الأمم المتحدة على حد سواء.

ورغم أن المنظمة الدولية شعرت مؤخرًا بتطور “ملموس” إزاء دخول المساعدات، إلا أن النظام مايزال مستمرًا في تعزيز فكرة فشلها بالقدرة على فرض دخولها، باعتبارها منظمة دولية ذات طابع فريد وصاحبة صلاحيات مخولة، وفق ميثاقها.

“التطور الملموس” لم يأت مباشرًا على لسان الأمم المتحدة، وإنما تمناه مستشار المبعوث الأممي إلى سوريا، يان إيغلاند، والذي قال “نرى نقطة تحول في قدرتنا على الوصول إلى المناطق المحاصرة والمناطق التي يصعب الوصول إليها”، إلا أنه ضرب بتمنياته عرض الحائط، مستطردًا “لنكن واقعيين فالحرب مستمرة وفي مناطق الحروب كل شيء هش”.

وتزامنًا مع تصريح المستشار الأممي، منع النظام السوري في اليوم ذاته (الخميس) دخول البذار الزراعية والأدوية والعدد الجراحية التي كانت موجودة داخل سيارات المساعدات إلى حي الوعر، كما كان فعل سابقًا في داريا، التي حاولت قوات الأسد اقتحامها أثناء دخول المساعدات، وغيرها من المدن المحاصرة.

قد يكون تحكّم النظام السوري بدخول المساعدات ضربة موجعة تتلقاها الأمم المتحدة باستمرار، دون أن تجد حلًا تفرض من خلاله قوانين ناظمة لدخولها، فهي حتى الآن عاجزة عن إيصالها إلى دير الزور، رغم أنها أسقطت دفعات جوًا، وتجدها ترمي بالمسؤولية عن إيجاد الحلول على عاتق روسيا وأمريكا وتطالبهما بالضغط على النظام، ما وضعها في قفص الاتهام كونها منحازة إلى صف الأسد.

منظمات مدنية تتهمها بالانحياز للأسد

وضع تعاون الأمم المتحدة مع النظام السوري، بخصوص إدخال المساعدات، المنظمة الدولية في دائرة الشبهات، واتُهمت بتوزيع مساعدات تقدر بمليارات الدولارات على طرف واحد، ما ساهم بدوره بمقتل آلاف المدنيين منذ مطلع الثورة، وقدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عددهم بنحو 552 شخصًا، بسبب حصار قوات الأسد لوحدها، ناهيك عن حصار التنظيمات الأخرى كـ”الدولة الإسلامية”.

وترى المنظمات الحقوقية أن المبادئ الإنسانية كالنزاهة والاستقلالية وعدم الانحياز، تتعرض لانتهاكات “خطيرة” في سوريا، وعلى يد الأمم المتحدة نفسها بخصوص المساعدات، كما تقول إن النظام السوري وجه تهديدات مباشرة إليها بسحب التراخيص الممنوحة لفريقها للعمل في سوريا، وإلغاء تأشيرات موظفيها غير السوريين.

55 منظمة مدنية سورية وقّعت على تقرير من خمسين صفحة، نشرته مجموعة “سيريان كامبين”، ووجهت فيه اتهامات للأمم المتحدة، تمثلت بفقدان نزاهتها واستقلالها وحيادها في سوريا، وقالت إنها منحازة لصالح النظام السوري.

التقرير الذي نُشر الأربعاء 15 حزيران، اعتبر أن الأمم المتحدة قدمت دعمًا كثيرًا حول العالم، “إلا أن مشاريعها في سوريا تسير بشكل خاطئ جدًا”، وهذا ما أكد أنها “رضخت للنظام السوري”.

وبحسب التقرير فإن نسبة المساعدات الغذائية التي وزعت في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، خلال نيسان الماضي، بلغت 88% من جملة المساعدات الغذائية الموزعة في الداخل السوري، بينما ذهبت نسبة 12% إلى المناطق الخارجة عن سيطرته.

“استغلال” النظام لمساعدات الأمم المتحدة لخدمة أجنداته تمثل خلال آب 2015، ووجهت أكثر من 99% من مساعدات الأمم المتحدة، إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، بينما لم تتجاوز النسبة التي حصلت عليها المناطق المحاصرة 1% من المعتمدة شهريًا، وفق التقرير.

ولا تحتسب الأمم المتحدة أرقامها تبعاً لنسبة الحاجة التي تؤمّنها، مع العلم أن النسبة قد تعطي صورة أوضح عن الواقع، بل يجري حساب الصناديق والحاجيات بحسب عدد الأشخاص التي يمكنها أن تكفي حاجاتهم، دون رقابة دقيقة فيما إذا كانت تصل إلى الأشخاص المعنيين، وفق شهادة تضمنها التقرير لأحد مسؤولي الأمم المتحدة.

ويعد التقرير، الذي طالب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بوضع خط أحمر بخصوص المساعدات، الخطوة الأولى من نوعها التي “تعري” عمل الأمم المتحدة في سوريا، واعتمد الباحثون والباحثات فيه على أكثر من خمسين مقابلة مع عاملين وعاملات في المجال الإنساني من حملة الجنسية السورية وغيرها من الجنسيات، إضافة إلى مسؤولين في الأمم المتحدة نفسها، وآخرين خبراء تقييم لعمل وكالات المنظمة الدولية، ومواطنين سوريين محاصرين، سبق لهم العمل في مجال الإغاثة.

ويبقى مشروع دخول المساعدات بشكل قانوني ودائم إلى المناطق المحاصرة في سوريا، ودون مضايقات، هو المعادلة الأصعب للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، وربما يساهم بوضع معايير معلنة تمكن وكالات الأمم المتحدة من التفاوض مع النظام السوري، دون أن تتنازل عن مبادئها الإنسانية، في مسك طرف خيط الحل، وإلا ستغدو المنظمة الدولية في نظر السوريين طرفًا من أطراف الحرب عليهم.

 

ستيفان دي مستورا.. “الكهلالذي يرقص على حبل رفيع

عمره في الحياة الدبلوماسية، أكبر بثمانية أضعاف من سنوات الحرب السورية الممتدة منذ خمس سنوات، والتعويل عليه كبير بإيجاد حل لهذا الصراع بعد فشل اثنين من قبله هما: الدبلوماسي الجزائري المخضرم، الأخضر الإبراهيمي، وأمين عام الأمم المتحدة السابق، كوفي عنان.

المهمة الحساسة، المنوطة بالمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، ستيفان دي مستورا، تتطلب الدقة والحذر، وضرورة التعلم من أخطاء سلفيه السابقين.

يفترض ألا يحسب على طرف من الأطراف، وأن يبقى في الوسط، وعلى مسافة واحدة من أطراف الصراع والقوى العالمية التي تقف خلفها.

منذ تعيينه مبعوثًا خاصًا للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا، في تموز 2014، لم يرحم أطراف الصراع هفوات الرجل، وكانت مرارًا ما تتهمه بالانحياز، والخروج عن اللياقة الدبلوماسية، لتصريح ما أدلى به، أو لعبارة ما قالها أمام الصحفيين، وأحيانًا لكلمة تفوه بها، فالاحتفاظ بالتوازن الدبلوماسي هنا أمر صعب، وليس أصعب منه إنجاح المفاوضات السورية- السورية.

يعتقد المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب أنه ومنذ تعيين دي مستورا في منصبه زاد عدد البلدات المحاصرة، ويقول وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، في أحد تصريحاته “إن كلام دي مستورا عن الانتخابات الرئاسية خط أحمر ومرفوض ولا يحق له التحدث عنها”.

ويرى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أنّ الدبلوماسي “المتعدد الجنسيات”، ستيفان دي مستورا، ربما يكون ورقة المنظمة الدولية “الرابحة” وربما الأخيرة القادرة على فك عقد هذه الأزمة التي اندلعت باحتجاجات سلمية مطالبة بالتغيير، ثم تحولت إلى اقتتال مسلح قاد إلى واحدة من أكبر الكوارث التي تعرضت لها البشرية بعد الحربين العالميتين.

وتعطي الصراعات التي نجح الرجل في حلها خلال الأربعين عامًا، وهي عمر مسيرته الدبلوماسية في أسخن بقاع العالم كالبوسنة والهرسك والعراق وسيراليون ولبنان وغيرها، بارقة أمل لملايين السوريين الباحثين عن الحياة بعدما خرجوا يطالبون بحقوق مشروعة، ووجدوا لاحقًا أنفسهم تحت البراميل المتفجرة، ولاجئين في بقاع شتى من العالم.

لكن نقاد دي مستورا يبدون أقل تفاؤلًا ويكيل بعضهم له الاتهامات متوقعين فشله.

ويُعتبر الرجل الستيني، المولود عام 1947، والذي غطى الشيب ما تبقى من رأسه، ولا تغادر الابتسامة محياه وخاصة عندما يظهر أمام عدسات المصورين رغبة منه في إضفاء انطباع بالإيجابية عما يدور خلف الأبواب المغلقة، من أهم الخيارات الأممية للمساهمة في إيصال أطراف الصراع إلى اتفاق يضع حدًا للمأساة.

ولعل ما مر به هذا الدبلوماسي في حياته الشخصية، وما شهده من حروب وأهوال هو وعائلته خلال القرن الماضي، يجعله الأقرب إلى الإحساس بمعاناة السوريين ويحفزه على مساعدة الأطراف على مد الجسور بينها وإيجاد أرضية مشتركة، فهو من والدة سويدية الأصل وأب إيطالي، وينتمي والده إلى عائلة “نبيلة” من بلدة سيبينيكو التاريخية في مدينة دالماتيا الكرواتية.

اضطر بعد الحرب العالمية الثانية إلى الفرار من مدينته، عندما استولت يوغوسلافيا على مدن إيطالية عديدة أبرزها مدينته سيبينيكو، فلاذ معظم الإيطاليين بالفرار وكان دي مستورا وعائلته منهم.

لا يحسد الكثيرون الدبلوماسي السويدي والذي يتقن سبع لغات عالمية، على مهمته الشاقة، نظرًا لحساسيتها وتشعبها، وتداخل قوى إقليمية ودولية فيها، وبالذات أمريكا وروسيا العدوان التقليديان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وينظر إلى مهمته على أنها ستتكلل بالنجاح فيما لو توافقت القوى الدولية على صيغة حل ما، وأن خبرته السابقة لن تنفع إلا في عقد اللقاءات وأخذ الاستشارات، طالما غابت إرادة هذه الدول المؤثرة في الصراع.

ويرى المبعوث الأممي أن نقاط التوافق بين المعارضة السورية والنظام يمكن أن يبنى عليها، ويشدد في أكثر من موقف على “أن حل مشكلة الإرهاب في سوريا يكون بالتوصل إلى حل سياسي” وأنه “لا يمكن لمكافحة الإرهاب أن تكون أولوية على إيجاد الحل السياسي في البلاد”.

في كل موقف يحاول دي مستورا أن يكون متوازنًا، وألا يظهر أنه ينحاز إلى طرف دون آخر، سواء المعارضة أو النظام لكيلا يفقد المصداقية وهي أهم ميزة يجب أن تتوافر به لإنجاح مهمته.. يطالب الرجل بإنهاء معاناة الشعب السوري تحت أي ظرف، ومهما كانت النتيجة، وهو ما ظهر في خطابه الذي وجهه للسوريين عشية انطلاق الجولة الثالثة من مفاوضات جنيف، داعيًا إياهم وقتها لرفع صوتهم عاليًا والقول للجميع “خلاص”.. “كفاية” .. لا يمكن لهذا المؤتمر أن يفشل.

يحمل ستيفان دي ميستورا، الجنسيتين الإيطالية والسويدية، وله ابنتان، وهو عضو سابق في الحكومة الإيطالية برئاسة ماريو مونتي، عمل سابقًا كمتدرب في برنامج الأغذية العالمي في قبرص عام 1970، وبدأ مسيرته مع الأمم المتحدة كموظف مشروع في برنامج الأغذية العالمي في السودان عام 1971.

عنب بلدي – خاص

مقالات متعلقة

في العمق

المزيد من في العمق