سيرين عبد النور – أورفة
“كان من المفترض أن يهتم تجار الرقة هذه الأيام بحساب أرباحهم خلال موسم شهر رمضان الذي تنتعش فيه الأسواق”، يقول التاجر عمران العبد، الذي يقطن في الرقة، مشيرًا إلى أن الوضع الحالي الذي تعيشه المدينة، جعل تجارها يحاولون الحد من خسائرهم والنجاة بأقل الأضرار.
ورغم أن أسواق الرقة كانت مليئة بالبضائع ومزدحمة بالمشترين، إلا أن العبد أكد في حديثه إلى عنب بلدي أنها شبه فارغة حاليًا، وأبرزها “السوق الشرجي” و”دوار المزارع” و”دويرة الخضرة” و”شارع 23شباط”، عازيًا السبب إلى “ركود الأسواق باستثناء السلع الاستهلاكية البسيطة والمواد الغذائية”.
ويرى بعض تجار المدينة الذين استطلعت عنب بلدي آراءهم، أن حالة القلق التي يعيشها الأهالي انعكست على الأوضاع التجارية المتأثرة أصلًا بقوانين تنظيم “الدولة الإسلامية”، التي حدت خلال عامين من حكمه للمنطقة من حركة البضائع وتنوعها وأثرت سلبًا على الأسواق.
بينما يعزو آخرون السبب إلى غياب الاستقرار العسكري للتنظيم، الذي فرض نفسه بعد الحملة التي أطلقتها قوات “سوريا الديمقراطية” لـ”تحرير المدينة”، وفي ظل القصف المستمر والتهديد باقتحامها من خلال منشورات ألقاها طيران التحالف الدولي خلال الأسابيع الماضية، إضافة إلى حركة النزوح الواسعة التي شهدتها مؤخرًا مدفوعة بمحتوى المنشورات التي دعت إلى الخروج من الرقة والابتعاد عن مواقع التنظيم.
جميع ما سبق خلخل الأرضية الاقتصادية والاستقرار الذي تحتاجه حركة الاستثمار المالي، بحسب التجار، الذي أكدوا أن أغلب الاستثمارات اقتصرت على المشاريع قصيرة الأمد، والاعتماد على المنتجات الاستهلاكية الأسهل تصريفًا والأقل خسارة في حال تلفها، بينما أوقف القسم الأكبر ممن بقي داخل المدينة استثماراته، ساعيًا إلى الخروج منها مع أول فرصة سانحة.
رغم تدهور الأسواق حركة الأموال لم تتوقف
ولم يقتصر التدهور على أسواق محددة، فقد طال محلات بيع المعادن الثمينة وخاصة الذهب والفضة، والتي أقفلت وانتقل أغلبها إلى حلب أو تركيا تدريجيًا، وبالتالي انخفض حجم الطلب، إلى أكثر من النصف، بحسب بعض العاملين في المهنة، ممن تحدثت إليهم عنب بلدي، وأكدوا أن الخوف من خسائر كبيرة، دفع من تبقى منهم داخل المدينة إلى خفض كمية الذهب ضمن محلاتهم.
رغم العجز الذي أصاب الأسواق، إلا أن حركة الأموال في الرقة لم تتوقف، بحسب حسن، وهو الاسم الأول لأحد العاملين في محلات الصرافة، وقال لعنب بلدي إنه ماتزال هناك تدفقات نقدية ترفد الأسواق بالسيولة، سواء عبر التحويلات الخارجية أو عبر عمليات البيع والشراء مع مناطق مجاورة لأراضي التنظيم.
طرح يوافق عليه بعض العاملين في مكاتب تحويل الأموال، رغم إقرارهم بانخفاض الكتلة النقدية التي كانت متداولة داخل المكاتب إلى النصف عن العام الماضي، واعتبر معظمهم أن قلة عدد المكاتب لم يمنعها من أن تكون إحدى “أهم وأربح” القطاعات في ظل مخاطر عديدة تحيط بها.
الشاب أكرم، يعمل في محل لبيع الذهب في الرقة، يرى أن قوانين التنظيم لم تنجح في التأثير بشكل كبير على قطاع التحويل، الذي يصعب فرض الرقابة عليه رغم كل المحاولات، على حد وصفه، رغم أن التنظيم فرض شروطًا على المكاتب ومنها تسجيل مبلغ الحوالة واسم المرسل والمستقبل وتسليم كافة البيانات لمكاتبه المختصة، إضافة إلى فرضه الحصول على ورقة مسبقة من جهاز “الحسبة” التابع له، قبل استلام أي حوالة مالية.
أمر فسّره العاملون في محلات الصرافة ممن تحدثت إليهم عنب بلدي، بخوف التنظيم من تمويل تحركات إعلامية أو عسكرية ضده، وهذا ما ظهر في اعتقاله عددًا من القائمين على محلات الذهب والصرافة واستيلائه على مكاتبهم، بحجة تمويلها لتحركات معادية له.
“التنظيم” سبب رئيسي
ترافق شهر رمضان هذا العام مع توقف كامل للسلع الداخلة إلى الرقة، خاصة من البوابة الحدودية المقفلة منذ عام عقب سيطرة القوات الكردية على معبر تل أبيض المنفذ الحدودي الذي يفصل بين تركيا وسوريا، والذي كان شريانًا حيويًا مهمًا يغذي الرقة، إضافة إلى طريق حلب– الرقة، الذي جفت السلع المتدفقة فيه بشكل كبير إثر المناوشات المستمرة بين التنظيم والفصائل الأخرى.
وانسحب نقصان السلع الواردة إلى المدينة على طريق الرقة- دمشق، ما جعلها شبه معزولة تجاريًا، إلا عن المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم في ديرالزور والعراق، والتي وصفها التجار لعنب بلدي بأنها “مستوردة وغير مصدرة”، ما جعل سوق الرقة ينكفئ داخليًا ويحاول تعويض السلع والبضائع بصناعات محلية.
وربما أثر تدخل العنصر العراقي في التجارة سلبًا على الحركة الإنتاجية والتجارية، بنزوله منافسًا قويًا للمشتري السوري ، وفق تجار آخرين، عازين السبب إلى “القوة المالية التي يتمتع بها التاجر العراقي وحجم السيولة، إضافة إلى ارتفاع حجم الطلب في السوق العراقية أكثر من السورية، ويقول أحد التجار في سوق القوتلي (رفض كشف اسمه) “العراقي أخذ حصة كان يجب أن تكون الأولوية فيها لسوريين من المواد التي تنتجها أرضهم”.
الأهالي يشتكون
ويشتكي أهالي الرقة، ممن خرجوا مؤخرًا، من سوء أوضاع الأسواق. تقول الحاجة أم سمير، التي نزحت قبل أيام، “كل شيء اختلف، الأسواق والبضائع وأشكال الناس.. لم يعد المكان يضج بالحياة والحركة كما كان”، واصفة ما يجري بأنه “ارتفاع تدريجي في الأسعار، ما أثر سلبًا على المستهلكين، وخفض كمية المشتريات ونوعيتها”.
انخفضت كميات المواد في السوق على اختلاف أنواعها، بينما تبقى أسعارها مرشحة للارتفاع بشكل مستمر، في ظل الطلب المتزايد عليها، وتأرجح سعر الدولار، فضلًا عن رغبة التجار في تحصيل ربح أكبر، ويقول الأهالي إن مراقبة الأسعار بشكل كامل غير ممكنة، رغم أن الخوف من التنظيم جعل الكثير من التجار يخضعون لقوانينه، ويخفضون أسعار موادهم.
ويبلغ سعر الفروج النيء حاليًا 1230 ليرة سورية، ويباع لحم الغنم بمبلغ 2400 ليرة، بينما يصل سعر كيلو اللحم المشوي إلى أربعة آلاف، ويباع كيلو التمر السعودي درجة ثانية بـ 1100 ليرة سورية، في حين حافظت الخضراوات على سعر مستقر، فيباع كيلو البندورة بـ 150 ليرة، والخيار والبطاطا بـ 100 ليرة.
ولم تر أم سمير في التنظيم إلا “حسنة” واحدة، وهي “تشدده مع التجار ومحاولته الحفاظ على مستويات الأسعار”، شهادة تأتي في صالحه، ويقر بها أغلب من تحدثت إليهم عنب بلدي، رغم أن رقابة التنظيم لم تمنع حالات الاحتكار من قبل التجار الذين يلجؤون إلى تخزين المواد بهدف بيعها بأسعار مرتفعة لاحقًا، على حد وصفهم.
ويشير أهالي المدينة إلى أن الرقة ستشهد انهيارًا متواصلًا في مختلف نواحي الحياة، ما سيؤثر على قرابة 200 ألف مدني فيها، بينما يرى معظمهم أن تنظيم الدولة يساهم بشكل أساسي اليوم في تحريك السوق، من خلال الضخ المالي غير المباشر، سواء عبر مرتبات العناصر أو الكتل المالية التي ينقلها إلى الرقة من مناطق أخرى.
ويؤكدون أن تعاملات التجار مع التنظيم وعناصره تشكل الشريان الأساسي للحياة، بينما يقول ناشطون إن بعض عناصر التنظيم يلجؤون إلى تشغيل أموالهم عند التجار بهدف الربح، ويرون أن معظم العناصر يتجنبون فتح مشروعات تجارية مستقلة رغم قدرتهم المالية، عازين السبب إلى عجزهم عن إدارتها، أو ربما تجنب كشف إمكانياتهم المالية وحجم ثرواتهم الحقيقي.