عنب بلدي – العدد 63 – الأحد 5-5-2013
د معتز محمد زين
الإسلام ثورة قيم قبل أي شيء آخر، هو ثورة على الظلم والاستبداد والاستعباد والاستفراد، هو ثورة لتحقيق العدالة والمساواة والأمن الاجتماعي، هو ثورة المستضعفين في وجه الطغاة والمحرومين في وجه المترفين والعبيد في وجه السادة، وهذه ليست صورة من نسج خيالي أحاول أن ألصقها بالإسلام، ولكنها حقيقة الدين كما أفهمه.. وسأوضح ذلك.
يمكننا أن نقسم الدين الإسلامي بكل مكوناته إلى محورين متكاملين، المحور الأول وهو المحور الأفقي ويمثل علاقة الفرد بمحيطه (البشري وغير البشري)، وهو باعتقادي جوهر الدين وأصله ومعياره، ويتضمن كل المعاملات والقيم والمبادئ الإنسانية الكونية الفطرية العابرة لحدود الزمان والمكان والدول والأعراق والألوان… (نصرة المظلوم ومقاومة الظلم وإغاثة الملهوف وإعانة الضعفاء والمساكين والمحتاجين، وبر الوالدين وحسن الجوار، والعدالة والمساواة… وهذه كلها أخلاق اجتماعية، يضاف لها الصدق والأمانة والوفاء والإيثار والصبر والإخلاص والحلم والرفق والكرم…، وهي أخلاق شخصية لها بعد اجتماعي).
والمحور الثاني هو المحور العمودي والذي يمثل علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى، وتندرج ضمنه العقيدة والعبادات ..
العلاقة بين المحورين هي علاقة تكامل، فصلة الإنسان بالله تعالى تنمو وتربو وتمتن بمقدار ما ينجح في إدارة العلاقة مع محيطه وفقًا للمبادئ التي أمره الله تعالى بها (فالخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)، والعكس صحيح ..
لكن جوهر الدين ومعيار التدين -من منظور بشري*– يكمن في المحور الأول، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم تلك القيم والأخلاق كعنوان لرسالته بعد البعثة مباشرة ولم تكن ثمة عبادات، ومعلوم أن أي مجدد أو صاحب رسالة أو داع إلى حركة إصلاحية يحاول في أول ظهور له أن يقدم للجمهور خلاصة دعوته وأصل رسالته، ثم يركب عليها ما يدعمها ويحقق أهدافها مع تقدم تلك الحركة واتساع رقعتها.. وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت رسالته في بدايتها دعوة إلى العدالة والمساواة ورفض الظلم وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن أجل ذلك استقطبت الدعوة منذ بدايتها المستضعفين والعبيد والمقهورين، أما العبادات فجاء الأمر بها متأخرًا ..
ومنذ بداية العصر الأموي وحتى يومنا هذا –مع استثناءات قليلة– تضاءل دور المحور الأول وضمر تدريجيًا –لأسباب كثيرة معظمها سياسي– مقابل تضخيم دور المحور الثاني، والسبب واضح، وهو أن للمحور الأول نتائج وانعكاسات اجتماعية وسياسية، وهو يجمع قاعدة شعبية يخشاها الحكام المستبدون، لذلك حاصروها وحاولوا خنقها تارة بمساعدة «رجال الدين» المتحالفين معهم عبر نصوص استخدمت خارج سياقها وخارج الخط العام للدين، وتارة عبر الإرهاب والتخويف والقتل .. في حين أنهم أفسحوا المجال لممارسة المحور الثاني لأن معظم نتائجه –إن صحت ممارسته– فردية، وأحيانًا اجتماعية لكن على نطاق ضيق ..
من أجل هذا، ومع تراكم هذه الممارسات عبر العصور، ارتبط التدين في ذهن الكثيرين بالمحور الثاني، وأصبح معيار التدين هو مدى ممارسة المسلم للعبادات والتزامه بمظاهر الدين، في حين أن المعيار الصحيح للتدين –باعتقادي –هو المحور الأول، أي مقدار التزام الإنسان بالأخلاق والمبادئ الجوهرية للإسلام في سلوكه وممارساته اليومية، ومدى استعداده لدفع الثمن اللازم لتحقيق هذه القيم وجعلها واقعًا معاشًا يستفيد منه جميع أبناء المجتمع، بالطبع دون أن يعني ذلك إهمال العبادات، والتي ينبغي أن تشكل رافدًا وحصنا للقيم والأخلاق الإسلامية .
ولا بد من التنبيه إلى ضرورة قراءة سلوك الحكام تجاه الدين وقيمه على مر العصور -باعتبارهم متورطين في حرف بوصلة التدين- من زاوية الممارسة السياسية وليس الدينية، فالحكام ساسة، والسياسة تحركها المصالح، والدين عند أكثرهم أداة لتحقيق أهدافهم، بينما الدين الحق تحركه القيم والمبادئ، وعلى من يدعيه أن يمتلك القدرة على توظيف مقدراته لمصلحة قيم الدين، لذلك لا يستغرب لأذكى الحكام وأجدرهم على إدارة البلاد أن يكونوا أحيانًا الأكثر استبدادًا وظلمًا، وبالتالي الأكثر بعدًا عن الدين وجوهره ..
هذا عن التحليل، أما التأصيل فكل سيرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هي تأصيل لهذا المعنى، ولكنني أكتفي بحديث واحد يلخص ما قلته، فقد أخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «…. ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم، قالوا: يا رسول الله كيف نصنع ؟؟ قال : كما صنع أصحاب عيسى بن مريم نُشروا بالمناشير وحملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله».
الإسلام إذًا، هو صرخة المظلوم في وجه الظالم، وثورة المقهور لاستعادة حقوقه الإنسانية، وعلى كل من يحمل لواء الإسلام أن يدرك هذا المعنى ويعيشه سلوكًا وينشره ثقافة إذا أراد لهذا الدين أن يكون نواة لجذب القلوب والعقول نحوه .
فكل خطوة تخطوها نحو الظالم تبتعد فيها عن الإسلام خطوة، وكل كلمة تنصر بها المستبد تنقض فيها عروة من عرى الإسلام، ووقفة صادقة مع أي مستضعف أو مظلوم – مهما كان دينه أو انتماؤه أو اعتقاده – خير من آلاف الخطب والدروس والمواعظ وربما الركعات والسجدات ..
*من منظور بشري: لأن معيار التدين الحقيقي هو علاقة الإنسان بالله تعالى .. ولأن هذه العلاقة لا يطلع على صدقها وحقيقتها إلا الله جل جلاله ، فإن معيار التدين من منظورنا كبشر هو تلك الأخلاق والقيم التي يفترض أن تكون مرآة لعلاقتنا الصحيحة بالله تعالى .