التنظيم، نحو تشكيل منهجيّة علميّة
طريف العتيق
تحدّثنا في العددين الماضيين عن التساؤل، والبحث عن الأسباب كسمات للتفكير العلميّ، وسنتابع هذا الأسبوع مقومات هذا التفكير، مع سمة التنظيم.
في معظم أوقات اليقظة التي نقضيها نمارس علمية التفكير بلا توقف، إلّا أنّ هذا النشاط لا يعمل بطريقة منهجيّة ولا منظمة، بل يتسم بالتلقائيّة والعفويّة، إمّا ردًا على المواقف الحياتيّة التي تمرّ بنا، أو تخطيطًا لأعمال مستقبليّة نعدّ أنفسنا لها، وهكذا ننتقل من موضوع إلى آخر، وتتداعى الأفكار بشكل حر وطليق، ورغم أنّ هذا شكلٌ من أشكال التفكير إلّا أنّه بالتأكيد تفكير غير علميّ، لأنّه غير منظم، نعم قد يكون سهلًا ومريحًا، وقد يكون حلمًا جميلًا من أحلام اليقظة، لكنّه لا يورث علمًا ولا موقفًا عقليًا سليمًا.
أما التفكير العلميّ فمن أهم صفاته التنظيم، أي أننا لا نترك أفكارنا تسير حرّة طليقة، وإنما نرتبها بطريقةٍ محدّدة، وننظمها عن وعي، ونبذل جهدًا مقصودًا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكّر بها، ولكي نصل إلى هذا التنظيم ينبغي أن نتغلب على كثيرٍ من عاداتنا اليوميّة الشائعة، ويجب أن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه، وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، وتصقلها الممارسة المستمرة.
لهذا يُوجّه نقدٌ شديد للشبكات الاجتماعيّة التي ساهمت في تكريس النفس القصير، في القراءة والتفكير، وبتنا لا نطيق قراءة المطوّلات (التي قد لا يتجاوز حجمها ألف كلمة!)، ولا نقدر على التفكير في مسألة واحد لفترة طويلة.
كما أنّنا نحتاج حين ننطلق في ميادين القراءة والتفكير والاطلاع، إلى بلورة خطٍ فكريّ، أو منظومة فكريّة، تجمع شتات الأفكار المتفرقة، وتربط بينها، وتبني عليها، وترتّب أولوياتها، وتعطي لكلٍّ منها حجمها، وأهميتها، وعلاقتها بباقي الأفكار، وإلا بقيت ثقافتنا عبارة عن مزق وأجزاء من هنا وهناك، وهذا العمل ليس بالسهل، وهو يحتاج لسنواتٍ من العمل وتقييمه ومن ثم تصحيحه.
يندرج ما سبق ذكره تحت بند «التنظيم الداخلي» لحياتنا الفكريّة والعلميّة، وهناك أيضًا «التنظيم الخارجي»، الذي نطبّقه على بيئتنا التي تحيط بنا.
وتنظيم البيئة الخارجيّة يشمل أفكارًا وممارسات كثيرة، منها:
– تنظيف وتنظيم طاولة العمل، المكتبة، المنزل.
– تنظيم وفهرسة المحتوى الرقمي على أجهزتنا الحاسوبيّة والمحمولة.
– وضع تصورات عامّة، وأهدافًا عريضة للإنسان، تنظّم جهده وتقنّنه حيثما يجب أن يكون.
– وضع خطّط عامة، واستراتيجيات مريحة، وتكتيكات في بناء المهارات الخاصّة.
وبشكل عام، فإن أهمّ ما يعنيه التنظيم استخدام القلم والورقة، وهذه بحق أدوات التميّز، فعن طريق كتابة الأفكار، يعمل العقل والحدس على إلهامنا بشكل رائع، فتتوارد الأفكار وتترابط، وتنمو، وتكبر، وتنضج، وتترسخ أثناء كتابتها.
واستخدام القلم والورق يمكن أن يتخذ أشكالًا كثيرة، مثل كتابة اليوميّات، الأمر الذي يفتح لنا (تدريجيًا) آفاقًا في فهم أنفسنا، وقدرة أكبر على التحكّم بها، أو حمل دفتر صغير «للمهمّات» و «الأفكار الطارئة»، بمعنى تسجيل الأشياء والمهام والأفكار فور ورودها، مما يصونها من الضياع، وينظم شؤون حياتنا.
افتتاح مدوّنة رقميّة، شكل آخر، يمكّن الإنسان من تدوين أفكاره (وبالتالي تنظيمها)، ومناقشتها مع الآخرين (وبالتالي بلورتها وإنضاجها).
وتعتبر الكتابة لأجل تفريغ المشاعر السلبيّة واحدة من أهم المهارات في الخروج من سيطرة قوتها على النفس، كما تلعب «الخرائط الذهنيّة» دورًا مهمًا في تحفيز التفكير وتنشيط الدماغ بشقيّه: المنطقي والإبداعي،.. ولا يمكن حقيقةً إحصاء الأشكال الممكنة لاستخدام القلم والورق، والأهم هنا هو الفكرة ذاتها، إذ لا يُعرف متميزًا واحدًا لا يتّخذ من الورقة والقلم صديقاه الدائمين.
أشكال التنظيم كثيرة، ومجالاته متنوعة، وتطبيقاته أكثر من أن تحصر، ورغم أهميته الشديدة في بناء منهجيّة علميّة في التفكير خصوصًا، وتحسين حياة الفرد والمجتمعات، إلّا أنه واحدٌ من أكثر الميادين التي يتجلى بها تقصيرنا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :