عنب بلدي – العدد 62 – الأحد 28-4-2013
يجلس ذاك الطفل اليتيم كل يوم يرتّب العلب وينمّقها.. ويمسح غبار الزمن عنها.. ليبدأ عمله اليومي مناديًا بين الرعية أن خذوا منها فهي ترياق يُنسيكم مرارة الأيام، وآخر يأخذ قسمًا منها ويجوب بها الشوارع لتلبية طلبات الناس، فتكاد تصل إلى فم كل مواطن بأسرع من صاروخ سكود، علّ شاربها يسحب نفسًا عميقًا منها، ثم يُخرجه مع زفير طويل ظانًا أن كل حنقه على أيامه خرج مع هذا الزفير…
نعم.. وأنا أدخّن… فيكفي أن أشهد كل يوم لهاث الأطفال وهم يتضرعون لعابري السبيل أن يشتروا منهم ما طاب لهم من أدخنة وسجائر لأشعر أنني أدخن.. وفي زاوية أخرى ترقب عيني منظر الأطفال والصبية يجتمعون في الحارات والأزقّة مبتعدين عن أنظار أهاليهم ليمارسوا شعورهم بالرجولة المبكرة -بنظرهم- وهم يستنشقون السيجارة تلو الأخرى ويتلذذون بنظرات الناس المتعجبة من صغر أحجامهم أمام عظيم فعلهم، وعلى صعيد آخر أجدني أمر أمام مقاهي مخصصة لارتشاف القهوة مع نفَس أركيلة وسجائر…ولعلمكم أكثر حديثهم عن ضيق أوضاعهم المادية، في غفلتهم عن المبالغ التي يحرقونها بأيديهم.. ويصطدم كتفي بمدخّن في محاولة مني أن أبتعد عن سيجارة الأول، فأرتمي بين أحضان امرأة صالحة تبيع ما تيسر لها من علب سجائر لتشتري قوت يومها، ثم أصعد السيارة وأستمر في تتبع أعقاب السجائر وهي تُداس أرضًا بأقدام من تلذذ بها، وإذا بابن سائق التكسي يتصل به من بلد آخر بعد أن هاجر طالبًا من والده أن يرسل له 4 كروزات دخان و 5 علب معسّل، لأجدني أضحك بألم وأخبر السائق «عمو طب إذا بعتت له بلكة خلص مخزون السجائر، كيف وقتها بدنا نأمن لشباب بلدي»..
لأجدني في نهاية اليوم وقد تكونت لدي ثقافة -نعم ثقافة- التدخين، «وعينكم ما تشوف الحمرا الطويلة الأنيقة، ماذا أخبركم عن الكينت الساحر (انتبهوا الأبيض لا الأزرق)، وباكيت اللوكي ذو الظل الفاتن، والغلواظ بلونه الخمري المثير، وما تنسوا الوينستون الفضي.. بس بتعرفوا الأنواع الجديدة ما عم تعبي راسي خصوصًا الكروزايرو الكينغ دوم والدينغر والحمرا القصيرة الكرتون… وأرجل شي يا معلم الدنهل … طبعًا الدنهل غير متوفر بكثرة لكنهم وعدونا بأن يجلبوه من الخليج… فيكم تقولوا عم دخن وسطيًا عشر باكيتات يوميًا.. صحيح أنها تسبب في سعالي لكنه سعال خفيف كما واعتاد عليه فكري… نعم فكري…
أتصور لو دخلت مسابقة المدخنين السلبيين لكنت المدخن السلبي الأول في مجرة درب التبانة وما حولها!!…
وعلى الجهة الأخرى تتربع على سماء مدينتي سحابة من الدخان الكثيف… وع قولة أحدهم إنها ليست دخان القصف وقذائف الهاون والسكود وحرائق الممتلكات، بل هي ناجمة عن تنفس المعتقلين الذين شملهم العفو الذي أصدره سيادة رئيس البلاد وقاتل العباد…