حذام زهور عدي
ليس تحالفًا وفق المصطلح السياسي للكلمة، بين سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ونظام الملالي الإيرانيين، في منطقة واسعة تبدأ بأواسط آسيا ولا تنتهي عند الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، بل قد تتجاوزها لتحيط بالجنوبية له.
وإن كان ظل ذلك التحالف هناك مايزال ضعيفًا، لكن ما يحدث بين الدولتين هو غض نظر وتجاهل العارف كما في سوريا، ومواقف منسقة ترتقي إلى التحالف كما في أفغانستان والعراق.
الغريب المدهش في هذا المشهد أن التحالف الروسي- الإيراني غير مخفي في دول آسيا الوسطى الإسلامية وفي سوريا، والمعلوم الظاهر أن هناك تنافسًا -إن لم يكن تحديًا- وعداوة تاريخية بين السياسة الأمريكية والروسية، فإعلام الطرفين الإيراني والأمريكي مايزال يدّعي العداء كلٌ للآخر، إذ يصدّر الإعلام الأمريكي البيانات التي تنفي أي تنسيق مع إيران، بينما يشدد الكونغرس قراراته باستمرار العقوبات وحصار الاقتصاد الإيراني، ويدفع المنظمة الدولية للطاقة الذرية لتفتيح العيون أكثر على أي نشاط نووي قد يخرق الاتفاق المشهور.
من جهته مايزال الإعلام الإيراني يتهم أعداءه المفترضين داخل إيران أو ثوار العراق وسوريا بالعمالة لأمريكا، عدا أنظمة الحكم الخليجية جميعها التي يعتبرها يد الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل.
ومايزال نظام الملالي يجيّش الشعب الإيراني في أي مناسبة وطنية بشعارات الموت لأمريكا، يرددونها مع رفع قبضات أيديهم عاليًا مهددين أمريكا بالثبور وعظائم الأمور في تحدٍ واضح لها.
أما إذا حاولنا استقراء عمق هذا المشهد المعقد وخلفيته وجوانبه، فقد نجد من التقاء المصالح أو اختلافها ما يبتعد أميالًا عن كل ما يُقال في الإعلام أو في تصريحات الأطراف كلها، ومن هنا فإن البحث عن آفاق هذه العلاقة المعقدة وتفكيكها أصبح ضرورة للمصالح العربية، التي لابد من أن يتخذ أصحاب القرار فيها المواقف المناسبة لحمايتها، فليست السياسة الإيرانية تملك من الشطارة والسحر ما تستطيع القفز على كل تلك الحبال، ثم تصل الأرض بأقدام ثابتة، رغم احتوائها على كثير من نقاط الضعف، لكنّ المسألة تتعلق بتصرف الآخرين أيضًا.
لنبدأ بالموضوع النووي وسياسة تكوين القوة الذاتية الإيرانية، فقد حدث نوع من المراجعة الذاتية في السياسة الإيرانية بعد مرحلة الهزيمة في الحرب مع العراق، حددت من خلالها نقاط الضعف والقوة في تلك السياسة، واكتشفت القيادة أمرين: الأول أن فكرة تصدير الثورة كان يجب أن تؤجل إلى ما بعد تكوين القوة القادرة على حمايتها، والثاني أنه لا بد من الاعتماد على النفس في تصنيع سلاح رادع له وزنه بالعلاقات الدولية، لا سيما في منطقة مهمة عالميًا تحوي إسرائيل المدللة والمتحكمة في هذا القدر أو ذاك بإقليم الشرق الأوسط.
وهكذا انتهز القادة فرصة وفاة الخميني ومجيء الإصلاحيين ليعلنوا تراجعهم عن تصدير الثورة ونيتهم العيش بسلام مع جيرانهم (خاصة محمد خاتمي)، ثم بدؤوا يسربون عمدًا أخبار تطويرهم لأسلحتهم الصاروخية، وصولًا إلى بداية بنائهم المفاعلات النووية (لأغراض سلمية)، وعقدوا من أجل ذلك الاتفاقات مع روسيا وكوريا الشمالية.
عادت السياسة الإيرانية سيرتها الأولى بعد مجيء المحافظين، وسرّبت متعمدة أخبارًا عن إمكانية تحول العمل النووي السلمي إلى التوصل لصنع قنبلة نووية، وفي الوقت نفسه كانت تنفي إعلاميًا الفكرة وتحوّلها إلى ورقة مساومة دولية.
من استفاد من موضوع النووي الإيراني؟
كانت إسرائيل التي تعرف جيدًا من خلال جواسيسها الإيرانيين أن طهران المستفيدة الرئيسة، ماتزال بعيدة عن تحقيق ذلك الهدف، فقد ابتزت العالم كله عسكريًا وسياسيًا وماليًا بسبب هذه القنبلة، التي لم تصنع، بينما تملك إسرائيل نفسها مئات القنابل أمثالها إن لم تفُقها تأثيرًا وتدميرًا، كما يوجد في العالم أربع عشرة دولة يملكونها، منهم ما هو بقرب إيران من إسرائيل (باكستان)، بل أبرمت إسرائيل نفسها من خلال الشركات المتعددة الجنسية اتفاقات بالمليارات مع قيادة الملالي ذاتها.
وبغض النظر من الطرفين عنها، كانت السنوات العشر أو ما تجاوزها للمفاوضات من أجل النووي عملية خداع كبيرة للشعب الإيراني أولًا، وللمساومة في نادي المساومات الدولية ثانيًا، حاولت من خلالها السياسة الإيرانية اكتساب النفوذ الذي تحلم به في إقليم الشرق الأوسط المترامي الأطراف، وكانت إدارة أوباما محتاجة لإنجازٍ ذي طابع سلمي يفرقع على شاشات القنوات ويغطي على برنامج أوباما في الانسحاب العسكري والارتداد نحو الداخل، ومن هنا كان التهديد الأمريكي الوقح لشركاء أمريكا القدماء في الخليج العربي، إذا هم عرقلوا ذلك الاتفاق أو وقفوا ضده.
واليوم يتفكك ذلك الاتفاق كاشفًا عن سر المواقف الأمريكية، بغض النظر عن الإرهاب الإيراني في المنطقة، وعن تمدد نفوذها على حساب حلفاء الأمس، ومن يقرأ مقال بول رايان، المعاد نشره في “الإندبندنت” بتاريخ 9 أيار الماضي، يجد بعض الإجابة عن سؤال: إيران وإدارة أوباما تحالف أم غض نظر؟ والرجل هو المتحدث باسم الكونغرس الأمريكي.
لكنّ سؤالًا آخر يفرض نفسه، فهل في حسابات النظام العالمي الجديد قبول التحالف الإيراني- الروسي المعلن متجاورًا مع التحالف غير المعلن الإيراني- الأمريكي، والذي يحوي في وحدته على الأراضي السورية واللبنانية والعراقية تناقضات جمة؟
وهل مثل هذا القبول له علاقة بتحول العداوة الروسية- الأمريكية إلى نوع من التحالف حينًا والتنافس حينًا آخر، أو نوع من الاتفاق على تقاسم النفوذ في أحيان كثيرة طاوين مرحلة الحروب العالمية، فاتحين الأبواب لحروب إقليمية ينفذون منها إلى تحقيق ما خططوا له؟
قد تكون شبه نبوءة دقيقة أو غير دقيقة، فالمستقبل وحده اليقين، إني أرى أن الروس والأمريكيين يستخدمون اليوم الإيرانيين لتفتيت المنطقة وتقاسمها، فمن المستبعد أن تقبل الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون رقبة مصالحها العراقية والخليجية في اليد الإيرانية، وأن تكون المصالح الغازية والبترولية الروسية باليد الإيرانية أيضًا، كما أن إمكانية تحالفها مع القوة الصينية الصاعدة قائمة.
وأرى أن سياسة التفتيت هذه بالأيدي الإقليمية نفسها ستطال إيران ذاتها، عندما تنضج ظروفها الداخلية، وهي الآن في بداية الطريق طالما تأخذ العزة والعنجهية نظام الملالي فيستمرون في فشلهم الداخلي، وبتعميق الجروح بينهم وبين جيرانهم التاريخيين.
إن أحدًا في المنطقة لن ينجو من شرور النظام العالمي الجديد إلا بتحالف إقليمي واسع، تتعامل دوله باحترام كامل لمصالح بعضها بعضًا، وكما تكون خصوصياتها مستقلة عن الدول الكبرى، وتحكمها أنظمة تتجاوز خرافات الماضي وتتطلع إلى بناء مستقبل مشرق بالسعادة لأبنائها جميعًا.