عنب بلدي – العدد 61 – الأحد 21-4-2013
أحمد عيساوي
مرّت سنتان على اندلاع الشرارة الأولى للثورة السورية, ويبدو واضحًا أنّ تراتبية الأحداث ومسارها جعلا منها الموضوع الأكثر جذبًا في منطق تجاوز الوصف والرأي إلى النقد والتقييم.
ولا يغيب عن بال البعض إناطة الثورة بحيّز «الغرابة» أو الفرادة في صنع حدث غير متوقع دون التشكيك بتماثل صور كثيرة مستقاة من الشارع العربي الثائر ضد الطغيان والفساد والتائق للحرية والعدالة الإجتماعية.
يحاول هذا النّص فهم الأسباب الكامنة وراء فرادة الثورة السورية وتلك التي جعلت من إطارها اليوميّ حدثًا متمايزًا عن بقية الأحداث الثورية كما في النص عرض للبيئة التماثلية التي أوجدها الشارع السوري في تداخله وتصالحه مع الثورات العربية الاخرى.
1 الثورة كحدث مغيّب في سوريا الأسد
أرسى البعث الأسدي طيلة 40 سنة من الحكم سلطة هرمية مسلحة حتى النخاع, عمّدها المفهوم القيمي- الذي استقاه البعث بوصفه حقلًا عروبيًا قوميًا حاضنًا للقضية الفلسطينية – بترسيخ فكرة «الصح الأبديّ», الصح الذي لا يلبث أن يضعف في مكان ما ليعود في تمظهرات حياتية طبعت واقع السوريين. وكانت فكرة الرفض أو القطع مع الجريان المنظّم لهذا الأبد فكرة تجاور الخيال إذا لم تكن تجاوزًا لمسلمّات الحقيقة المثلى التي قدّمها الخطاب البعثي.
حاول النظام الأسدي بشكل أو بآخر تقنين الحملات التأديبية لتأخذ في طورها الزماني والمكاني حيّز القطع والعزل, ولتتبدى هذه السلطة وكأنها تفصل السياسي عن الإجتماعي عن الثقافي في ما يمكن تفسيره بكسر الرابط القرابي للسوريين, الرابط الناتج عن وجودهم جميعًا تحت سطوة الفعل ذاته. وكان الإنقطاع الإرادي للفرد السوري عن عبادة الصنم الحاكم حدثًا غرائبيًا يؤسّس لفكرة الفرادة حتى ضمن محيطها العربي العام, لأنّ الصنم السوري كان الأكثر قدرة على صنع التشظي الهوياتي في كينونة منقّحة عن أنظمة الحكم الفاشية والنازية.
يخال المتلقّي للحظة أنّ سردية الثورة تتقاطع في الواقع مع نمط التطور التلاقحي لبنى المجتمع السوري, أي أنّ الحدث الممنهج في المقدمة المتمثل في الهتاف السوري الأول «وينك يا سوري وينك؟» هو القطع الحكمي مع مرحلة زائلة. والحتمية بسطوة الأبد الأسدي سقطت مع الإنفجار الدرعاوي لأنّ مرتبة الحدث الجلل ترتفع شيئًا فشيئًا تبعا لمنسوب الدم المراق وتبعا لإمتداد اللهب ليطال المكان الشكليّ في يوتوبيا تصويرية للقصف والقنص والتعذيب وأعراس الشهادة.
لم تكن الثورة في سوريا الأسد غائبة بل كانت مغيّبة وأصبح تماهي الفرد مع الشخصية التي رسمها النظام وأراد لها أن تكون كما يريد شيئًا طبيعيًا, وكان أي طرح يؤسس لفكرة التغيير في بنى الدولة يحكم عليه بالإعدام (معنويًا أو ماديًا).
لا يتنهي التمايز عند هذا الحد في الثورة السورية لأنّ مفهوم المجزرة اتخذ شكلًا آخر إن كان في طبيعة القمع الذي ينتهجه النظام أو في طريقة مكننة الجريمة الأخلاقية. وارتبطت الجريمة بشكل أو بآخر بثقافة الإلغاء والإقصاء وأظهرت هشاشة تلقائية في عقل النظام تمنعه من ابتداع المبادرة السياسية لتؤسس لاحقًا إلى منطق خاسر نتيجة صمود الشعب السوري طيلة سنين.
2 التماثل بوصفه أيقونة مشتركة لإنتصار الثورة
سجّلت الميادين العربية في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين شجاعة أخّاذة, تحدّت آلة الموت العسكرية وأظهرت منسوبًا من الوعي (الهش) الذي يتطور بشكل نسبيّ مع استمرار الكسب الثوري في علاقة تستنهض العناصر المؤسسة للثورة. كانت اليوتوبيا المكانية في الساحات السورية أشبه بالمدّ التراتبي للجسد المتألم وكان الفرد المضمر والمحطم يجاهد في وطأة الحزن ليناقض السائد الشعوريّ. غدت الصرخات السورية تقاطعات ممسرحة في مضمار صوتيّ يلاقي انبعاث المشتاق إلى المنسيّ الممنوع وبدت الحالة السورية الثائرة في تحيتها للميادين العربية المنتصرة وكأنها بسط لفيض الفرح ونشوة النصر.
صنع السوريون على مدى سنتين اتجاهًا تراكميًا لفوضى المشاعر اللاسلطوية الخارجة عن سطوة الأبد إلى رحاب الحرية المرجوة وكانت تجسيدًا للعائلة الواحدة التي ترزح تحت خيار اللاخيار في منظومة علاقات شوهها البعث بشعاراته الثقافوية ومزايداته العروبية والقومجية.
كان التمرد على النظام الثقافي في سوريا تمرّدًا على أنماط السلوك وطريقة التقكير وأساليب العيش وكان الإختلاف الثقافي يتناقض مع مبادئ معرفية للبنية السلطوية, لذلك كان النظام يلجأ دومًا إلى خلق الوازع القوي في كلامه عن «أقليّة» و»أكثرية» مع التركيز على هوية الدولة العلمانية المتصالحة مع الأديان والطوائف.
كانت سلطة المباحث والمخابرات المريضة الصورة الأوضح لما رسى عليه شكل الدولة المخفية, التي تحكم في سرّ الفرقة والفتنة دون أن تظهر تصويرها في شبكتها التخاطبية مع عموم السوريين.
إنّ صورة الرمز الخالد دفعت الشعوب العربية إلى التماثل في عدائها للشخص المسيطر, والعداء الناتج عن احتقان سنوات من الزمن لم يضمر عداء آخر امتد ليطال كل ما له علاقة بالفرد من أطر عائلية ومذهبية ومناطقية وهنا كان التمايز الذي أوجده السوريون (أقله في الشكل العام) في رفضهم لكل ما هو مستبد وفاسد دون الإنغماس في مسألة المشابهة الشكلية للشعوب الأخرى. ينتج عن طبيعة التنوّع المذهبي والقومي والعرقي للمجتمع السوري هجين ولدت قدرته الجمعية في الساحة لا في مؤسسات أو أطر ضيقة تحصر الفرد وتعمد إلى شطر بناه وتقسيمها بما يتناسب مع صالح النظام القائم.
3 حتمية النصر
لا يكترث السوريون اليوم إلى تخاذل المجتمع العربي والدولي وبات مصير الثورة مرتبطا بشكل كبير بما ستكتبه أيديهم وما ستهتفه حناجرهم, ولا يبدو أنّ فكرة التراجع عن الإستمرار في الثورة واردة أبدا في مخيال السوريين لانّ العقود التي مضت جسمت على صدورهم وقزّمت طموحاتهم وقتلت أحلامهم.
هذا التمايز الذي يخلقه السوريون إبداعًا في ساحات الثورة سيؤدي حتمًا إلى انتصار الثورة ولو كانت فاتورة الدم باهظة الثمن.