لارا المحمد
ها هي سوريا تدخل عامها الثالث من رحلة البحث عن الحريّة، والمطالبة بالانعتاق من حكم الطاغية. الحرب لا تزال مشتعلة، والعنف ينهش كلّ شيء. إلى الآن وبعد سنتين من اندلاع ثورتنا، تبدو الأزمة في سوريا عصيّة على جميع المحاولات، والحلول السياسية الشبيهة بفقاعات الصابون.
رغم كلّ صور الخراب، والمقابر الجماعية، وبقايا القذائف الفارغة التي لم تترك شيئًا إلا واغتالته. ورغم روايات النساء، والأطفال الفارّين من قصف النظام، وبطش شبيحتهِ. رغم ما نسمعهُ إلى الآن عن معاناة أهلنا القابعين في مخيمات اللجوء، ومحاولات نظام الأسد لتجييش أبناء الجماعات الموالية لحكمه، واستخدامهم كأداة في النزاع المسلّح ضدّ إخوانهم من أبناء الشعب السوري، باعتبار أنّ الصراع الدائر في سوريا كما صوّره النظام إنما هو صراعٌ بين الطائفة العلوية، والغالبية السنية، التي تحارب من أجل القضاء على العلويين، واقتلاعهم من هذه الأرض، رغم كلّ محولات التمزيق، والتحريض، مازال الشعب السوري ممثلاً بأبناء هذه الانتفاضة يحاول انتشالَ بارقة أملٍ يمكنها أن تجعل سوريا قادرة على تفادي وقوع أيّ حرب طائفية يسعى النظام لإشعالها.
فالروح الوطنية التي حملت راية الثورة منذ البداية، لا تزال موجودة بشكلها المدنيّ، والسلميّ، ومازال ناشطوها، وقادتها العسكريون، والدينيون يسعون جاهدين من أجل القضاء على تلك الانتقامات، والثارات الطائفية والمذهبية. إنهم يحاربون نظام الأسد من أجل إرساء أسس العدالة، والمدنية، والديمقراطية الحقيقية، التي ستقوم عليها سوريا المستقبل، سوريا الجديدة، التي يتمتع مواطنوها بالكرامة، والمساواة في الحقوق.
فإلى الآن ما تزال تعمل تجمعاتٌ منظمة للشباب السوري الثائر، بالتعاون مع أشخاص من أبناء الطائفة العلوية، وأبناء الأقليات الأخرى في سوريا، الذين انضموا للثورة منذ قيامها، على محاربة الطائفية التي يعمل النظام على تعزيزها. فقد حاولت تلك التجمعات الشبابية القيام بأعمالٍ، ومبادراتٍ من شأنها أن تدحض كلّ الشائعات المروِّجة للمذهبية. فهي تدعم، وتساند أيّةَ مبادرة ساهمت في مساندة الثورة، والوقوف إلى جانب الثائرين في وجه نظام الأسد الفاسد، لأيِّ شخص من أبناء الأقليات. كمؤازرة الثورة لتجمّع (نبض للشباب الوطني السوري)، الذي أسس له شخص من الطائفة العلوية في مدينة حمص، وقد التحق بركب الثورة منذ انطلاقها، وكان هدفه الأول من تأسيس هذا التجمّع أن يدعم الثورة السورية، ويؤكّد على لا طائفيتها. إنّ هذا التجمع يرغب في أن يكون الدرع الواقي لسموم الطائفية، التي لو انتشرت لفتتت البلاد، وأغرقتها في حربٍ طاحنة لا نهاية لها. فقد نظّم هذا التجمع مبادراتٍ عديدة خلال هذه الثورة، كالاحتفال مع إخواننا المسيحيين في أعيادهم، وتوزيع الهدايا لهم، كما قام في شهر رمضان بإقامة مآدب رمضانية في كنائس مسيحية جمعت بين المسلمين، وإخوانهم المسيحيين.
وإلى جانب هذه التجمعات، ثمّة أشخاصٌ من أبناء الطوائف الأخرى التي يوالي معظمها نظام الحكم، يعملون بشكلٍ مستقلّ، مخفيّ في دعم انتفاضة الشعب السوري، ويسعون إلى المحافظة على أواصر الصلة الرحيمة بين الثوار، وبين تلك الأقليات التي يغرق النظام المجرم في جرّها إلى هاويةِ الحربِ المذهبية.
حتى المجموعات الثائرة المسلّحة، والتي تقاتل على الأرض، بما فيها جماعة (جبهة النصرة)، التي اتهمها النظام بالتحريض الطائفي، وكال لها الغرب الاتهامات بالتطرف، ودعم الحركات الإسلامية الأصولية، كلّ هذه الكتائب المقاتلة تعترض، وترفض بشدّة أي نزعة تشدّدية، تعصبية قد توجد لدى بعض أفرادها تجاه الموالين لحكم الأسد.
فالجيش الحرّ كما يصرّح معظم قادته، وعناصره، هو جيش لكلّ أبناء الشعب السوري، وليس جيشًا لطائفةٍ ما دون غيرها، والحرب التي تدور الآن في سوريا، هي حرب تطالب بإسقاط طاغية الشعب السوري، من أجل تأمين الديمقراطية، والمساواة لجميع السوريين. فقلّةٌ من الشعب السوري الآن من ينتقد جبهة النصرة، حتى أنّ عددًا من أبناء الطوائف الأخرى كان قد وقف منها موقفًا إيجابيًا بعد أن رأى ما تقدّمه للشعب السوري من مساعدات إنسانية، وميدانية لم تقدّمها كل الحكومات الغربية لنا.
فيتحدّث أحد أبناء قرية الفوعة في مدينة إدلب، والمجاورة لمدينة بنش، وهو شيعي يقول وقد رفض التصريح باسمه: (إنّ جبهة النصرة، أو حتى الجيش الحرّ الذي طالما أشاع النظام عن تحريضهم على الطائفية، والإرهاب. لو كانوا كذلك لكانوا الآن، وبعد سيطرتهم الفعلية على جميع مناطق ريف إدلب قاموا بمهاجمتنا، والتنكيل بنا بحسب ما صوّرهم النظام لنا. إنّ كل ما طلبه منا الجيش الحرّ هو الكفّ عن القيام بعمليات التشبيح لصالح النظام، وإلقاء السلاح، وتسليم كلّ المتورطين بأفعال أساءت للثورة).
وفي حمص التي تعتبر من أكثر مناطق سوريا توترًا، وحساسيةً بسبب التوزّع السكاني المنقسم، بين معارض وموالٍ، تحدّثنا إحدى الناشطات من بنات الطائفة العلوية، كيف كانت تمرّر الطعام إلى عناصر الجيش الحرّ عبر الحواجز التابعة لقوات نظام الأسد. فالثورة السورية كما تقول تلك الفتاة: هي ثورة لكلّ السوريين، وما نفعله نحن إنما لتأكيد عدم طائفية هذه الثورة، ولنبقى محافظين على أمل الوحدة الوطنية، أمام كلّ حالات التشدد والتعصّب، التي يمكن أن تودي بنا إلى حرب أهلية.
وإلى جانبِ حركات التجمّع المدنيّة اللاطائفيّة، وكتائب الجيش الحرّ، لابدّ أن نقف عند المحاكم الشرعية التي أقيمت من أجل فرض الشريعة الإسلامية، التي حاول بعضهم الترويج لها على أنها محاكم متشدّدة، قائمة على الأحكام الشخصيّة. في حين أكّد أحد القضاة المنتخبين في المحكمة التي أسست في محافظة إدلب، أنّ الهدف الأساسي من إنشاء هذه المحاكم، هو الوقوف في وجه حالات الاقتصاص المذهبي، أو الانتقام الشخصي. وقد أخذوا على عاتقهم مهمة الوقوف في وجه بعض الشبان الذين يقومون بأعمال فرديّة، من شأنها أن تحرف الثورة عن مسارها الذي انطلقت منه، في مثل هذه المرحلة الانتقالية الحرجة.
ربما ينتابنا الخوف، وباستمرار النزاع الدامي من سقوط ورقة الطائفية، التي لوّح بها النظام على مدى عامين متتاليين. فلربما زادت ممارسات النظام الوحشية من انتشار رقعة التشدّد الطائفي، وتقلّص مساحة اللاطائفية، إلا أننا وبوجود مثل تلك الحالات التي تحدّثنا عنها، وبعضٌ من الروايات التي نسمعها، يبقى لدينا بارق أملٍ قد يكون ناجعًا في استمرار ثورتنا من أجلِ وطنٍ واحدٍ لجميع السوريين.