إلى أبقراط !!
حنين النقري – دوما
من أشد ما تعاني منه أية مدينة محاصرة أو محررة، هو غياب الأطباء من كافة الاختصاصات، فتجد أن طبيبين أو ثلاثة، يحملون على كواهلهم تطبيب مدينة كاملة، يبذلون وسعهم في تغطية الحاجة ما اسطاعوا، يجتهدون باختصاصات ما درسوها، لكن الطب علمهم أن حفظ الروح أولى من أي تقسيمات وتخصصات..
وهؤلاء وأمثالهم، شأنهم على الرأس ومكانتهم في العين، لعظيم فعلهم، ولإنسانية ما تنكّروا لها ولا أنستهم إياها المادة!
أما حديثي، فعن سواهم، إلى السواد الأعظم من الكوادر الطبية التي ولّت وتخلّت ونحن بأمس الحاجة لها، إلى الأطباء الذين كانت عياداتهم تتراصّ وتصطف في كل حاراتنا وشوارعنا، نتخير منها عند حاجتنا ما شئنا، ممن كنّا نحترم ونجلّ، فما عاد لهم بعد اليوم أي احترام أو إجلال!
في كل العصور والمجتمعات، نال «الطبيب» مكانة اجتماعية مرموقة ما نالها صاحب مهنة أخرى، وقداسة في أي عائلة ينتمي لها، وتبجيلًا وتوقيرًا له في أي محفل ومجلس، ولست هنا ضد تكريمه في الماضي، لكنّي أتساءل عن طبيعة هذا الاحترام والتكريم مستقبلًا!
ﻷن كل مكانة وكل احترام ﻷي طبيب، ما كانا إلّا لأهمية وإنسانية المهنة التي يزاول، ﻹحيائه الروح، ومداواته الجسد، ﻹخلاصه للقَسَم الذي أقسم، والعلم الذي تعلّم، لسهره وتعبه وإرهاق جسده مقابل راحة أجساد الآخرين، يفارق منزله ليلًا لإنقاذ إنسان في خطر، وجلّ ما يتمناه أن يعود المريض لعائلته معافى، ناسيًا أنه فارق عائلته ﻷجله..
أما اليوم، فأخبروني بربّكم، عن أي إخلاص نتحدث؟!
إن كان معظم أطباء أي منطقة تحت الخطر، تركوها وغادروا إلى مدينة أخرى، أو إلى بلد آخر خارج سوريا في كثير من الاحيان، ما همّهم روح تزهق، وجريح يموت على رصيف، ما وجد من يوقف له نزيفًا من شظية أصيب بها، وما كان أيسر إنقاذه..
عن أي أطباء نتحدث، عن أولئك الذي كنّا نتغاضى عن ماديتهم سابقًا، مقابل مهارتهم، فلمّا احتجناهم اليوم، وجدناهم سخروا أموالنا ليسافروا عنا بعيدًا، حيث الأمان أكثر، والمال أوفر؟
هل نتحدث، عن أولئك المغتربين، الذين سافروا يوما ليتعلموا مهارات جديدة، ويعودوا بها إلى بلادهم؟ فلما احتاجهم أهلوهم، وعزّت الحاجة لهم، تعذّروا واعتذروا وما من عذر؟
عمّن نتحدث، والحاجة لطبيب فاقت اليوم كل حاجة؟
أوليس هذا أحد أبشع أشكال التولّي يوم الزحف؟
هل كانوا معنا في الرخاء واليسر، فلما أتتنا الشدة والعسر، وضاقت علينا من كل الجوانب، تنكّروا لمجتمعات فيها نشؤوا، وبأموال أهلها أثروا، ما عاملتهم إلا باحترام، وما كنّت لهم إلا الإجلال والتوقير؟!
أوليس ما يجري نقض لكل عهد، وحنث بكل يمين، وتنكّر لكل إنسانية ولكل رحمة جبل الله القلوب -كل القلوب- عليها؟!
شهدنا العديد من الحالات، العديد حقًا، من إزهاق روح لعدم وجود كادر طبي، من فقدان حواس وأعضاء وأطراف، كان يمكن أن يعالجها أي مختص، لكن غيابه، جعل مكانه لممرض متدرّب، لا يعرف إلا الإخلاص، وليس له من خبرات الطب شيء، ولربما كان قبل الثورة بائع أقمشة، لكنّ انسانيته جعلته يتدرب ويتعلّم، علّه يرابط على ثغر من ثغور الجهاد، حينما غاب عنه المجاهدون الأحق منه بذلك!
كيف يمكن أن يتغاضى أي طبيب أقسم يومًا قسم أبقراط، عن نداء الإنسانية له بهذا الشكل؟!
أعتقد أن أبسط ما يمكن فعله، وأقل جزاء يمكن أن يحاسب به المجتمع من تنكّروا له في الشدة، من أطباء حصرًا، هو أن تسحب منهم شهاداتهم الطبية غدًا، أن يمنعوا من مزاولة مهنة الحياة في بلد احتاجهم ليبثّوا فيه الحياة، فتركوه وحده، يتجرع الموت بعيدًا عنهم!
تنكّروا ما شئتم، فلن ينسى التاريخ لكم ذلك..
وعند الله الجزاء الحقّ..
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :