التساؤل – نحو منهجيّة علميّة
طريف العتيق
أيّ تغيير نبتغي تحقيقه على الأرض هو في حقيقته انعكاسٌ لتغيير في العقول، لكنّ الذي يحدث غالبًا أننا نضيع وقتنا وجهدنا في محاولةٍ لتغيير السلوكيّات، بينما الذي يجب أن نعمل عليه هو تغيير ما بالأنفس من أفكار ومناهج ومسنّنات (إنّ صحّ التعبير)، ثم يأتي تغيير السلوكيّات/الواقع كمحصّلة حاصل.
وإذا فكّرنا في أهم ما تفتقده الذهنيّة العربية من مكوّناتٍ فكريّة، وجدنا ذلك يتمثّل في غياب المنهجيّة العلميّة في التفكير، إذ يصحّ القول أننا -كمجتمعاتٍ- لا نملك عقليّة علميّة.
وليس التفكير العلميّ تفكير العلماء بالضرورة، أو جملةً من العلوم والنظريّات والحقائق العلميّة، التي قد لا يعرفها سوى المتخصّصون في مجالاتها، بل إنّ ما نودّ الحديث عنه هو ذلك النوع من التفكير المنظّم، الذي يمكن أن نستخدمه في شؤون حياتنا اليوميّة، في مهننا، علاقاتنا مع الناس، وفي حلّ المشاكل التي تواجهنا في كلّ يوم.
وحقيقةً فرغم افتخارنا بعلم الآباء والأجداد المسلمين، فإن هذا الافتخار يصاحبه تعصبٌ شديد ضد أبسط مبادئ التفكير العلميّ، بل ومحاربة لبعض منهجياتها، وهذا ما يجعلنا نقول بأنّ هذا الافتخار إنما هو من باب الافتخار بالنفس والتاريخ والتراث، لا تمجيدًا لقيمة العلم ذاتها.
ولنبدأ مع العنصر الأوّل من عناصر التفكير العلميّ:
التساؤل:
العقليّة العلميّة تمجّد السؤال، وتعتبره واحدًا من أهمّ مرتكزاتها على الإطلاق، وتعطيه قدسيةً شديدة، وأهميّة قصوى، وذلك لأنّه الأسلوب الذي يمكّننا من التشكيك في المسلّمات التي نعتقد بها بقوّة. إنّ السؤال يضعنا أمام أنفسنا وقناعاتنا القديمة من جديد: ما دليل صحتها؟ لم كان كذا كذا؟ من أين جاء هذا؟ ألا يتعارض مع ذاك؟
والتشكيك ليس مطلوبًا لذاته (كما أنّه مرحلة على الطريق، وليس مذهبًا في الفكر)، بل هو مطلوب لما يحقّقه من غربلة للمعتقدات القديمة الموروثة، التي قيل لنا (من الآباء والأجداد والكتّاب والمشايخ الخ) أنّها صحيحة، وأنّ الأمة أجمعت عليها، وأنّها القول الفصل، وكلمة الرب.
إنّ التشكيك منهج في التعامل مع الموروث الدينيّ والعلميّ والاجتماعيّ، يضعنا أمام عملية بحث طويلة، واستكشافٍ عميق، لنرى في نهايته صدق القناعة التي بدأنا بالتشكيك بها، أو كذبها، أو لربما أدخلنا عليها تعديلًا ما، قلّ أو كثر.
إذ يجد كلّ مجتمع نفسه أمام موروث قديم يتسم بالبداهة والتصديق السريع، وفي حال نظرنا إلى واقع هذا المجتمع، فوجدناه مثالًا واضحًا للتخلف والرجعيّة والجمود، وجب القول بأنّ بنيته التحتيّة (الأفكار، المعتقدات، الآراء المتبناة، المقولات الشائعة) بها خلل يتناسب مع تخلف الواقع، ومن هنا تأتي أهميّة السؤال من كونه معولًا هدّامًا لكل الخرافات والمقولات غير الصحيحة، التي تعيق التقدّم والنهضة والرقيّ.
وعلى السؤال أن يكون جريئًا، مهما كان محتواه، وهذا دأب الأنبياء {قال ربّي أرني كيف تحيي الموتى}، {قال ربّي أرني أنظر إليك}، أمّا البيئة التي تحتضن التخلّف فتعتبر هذه الأسئلة كفرًا بواحًا، وردّةً دينيّة، وشكًا يودي إلى النار، لكنّ الخطاب القرآني أخبرنا بأنّها تساؤلات الأنبياء، مقدمًا سيدنا إبراهيم وهو يتساءل عن خالق هذا الكون، ويبحث عنه، بدءًا من معتقدات بني قومه، ثم يصل إلى تفنيدها، ليؤمن بالله الواحد الحقّ، ولذا اختاره الله ليكون نبيه وحامل رسالته، لامتلاكه عقلًا متحررًا من الإرث القديم، يسعى إلى الحقيقة ولا يجد غضاضة في قبولها، وجاء الإسلام ليؤكّد مشروعيّة السؤال بل وأهميته القصوى كمنهجيّة في التفكير، إذ يؤثر في الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم «نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم»
علينا أن نكتسب مهارة الفضول العلميّ، القائمة على التساؤل والشكّ، بحثًا عن الحقيقة، وإخلاصًا لها، وهذه أولى خطوات المنهجيّة العلميّة في التفكير.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :