عنب بلدي – العدد 60 – الأحد 7-4-2013
«دقائق مسروقة من حياة أحد سكان داريا»
كثيرًا ما يلفت انتباهك أشخاصٌ مختلفون، ومتميزون بتركيبتهم الداخلية، يعيدون الأمل إليك ويبعثون فيك التفاؤل ..
يجول نظرك في «داريا السلام»، فتجد دخانًا هنا، شظايا وبقايا صاروخ هناك.. سقف بيت منحن، جدران منهارة، شرفات ونوافذ تكحلت بالسواد، سيارات محترقة، وأشجار مقطعة، وأخرى ما تزال واقفة.. تحكي قصة صمود شعب أبى الذل والانصياع…
أبو علاء ليس بفلاح ولكن ظروف الحرب التي شنها النظام على داريا فرضت عليه أن يمتهن الفلاحة..
رجل زبدانيّ عشق داريّا منذ الصغر كعشق والده لها، أتى إليها قبل 15 عشر عامًا، ناسب أهلها وعاش بينهم، أحبهم وأحبوه، وها هو يؤثر البقاء مع من بقي منهم في داريا منذ بدء الحملة العسكرية الأخيرة عليها.
يعكف أبو علاء على فلاحة أرضه والعناية بأشجارها ومزروعاتها، تحت القصف والنيران، بغرابة قد لا يفهمها كثيرون، فما الذي يبرر الحصاد تحت النار!؟
جلسنا نستمع إليه تحت شجرة في بستانه.. بصوته الذي أتعبته الحرب، مختلطًا بزقزقة عصافير السلام، وأصوات القذائف التي تنهال على المدينة من خلفه راح يحدثنا، ونحن نصغي إليه باهتمام، فوجدنا في كلامه تفاؤلًا منقطع النظير، وطيبة قلب لا مثيل لها… «ضليت هون لأنو الشجر رح ييبس.. بدنا نعيش بدنا نطعمي العالم يلي حولينا»
من لهذا الرجل وسط هذا الدمار؟ كيف يؤمن أساسيات حياته؟ .. يجيب أبو علاء على هذا: «عند الله ما بيضيع شي.. ازرع خير بتلاقي خير .. أنا زرعت خير وخاصة بالثورة وعم احصد الخير هلأ .. بيمرق واحد بيعطيني لتر مازوت من هون .. لترين من هنيك .. والأرض مثل الإنسان العطشان يلي بيطلب كاسة المي، بتقللو مافي غير فنجان صغير.. بيقلك هات.. وهيك الزرع عندي».
أثناء كلامه.. تتلمس فيه نقاء السريرة والإخلاص في الهدف، فهو من الناس وللناس، منّ الله عليه بهذا العمل بعد أن كان نجارًا، يعمل ليطعم نفسه ويطعم الناس، لا يبخل على من بقي من جيرانه إذا طلب منه أحدهم القليل من محصول أرضه «الفول أو السبانخ والثوم» بل يشعر بالسعادة كلما طلبوا منه ذلك… ينادي عليه الأطفال «عمو أبو علاء بدنا فول بدنا جزر»، «تعال عمو خود شو ما بدك» يرد أبو علاء.
أبو علاء الذي لم يعرف طعم اللحم منذ أشهر، يعاني في تأمين قليل من الماء الذي لا يكفي لكل ما يزرع، فيعيش بعض زرعه ويموت بعضه الآخر، يأكل هو ويطعم من بقي حوله من الناس، ويعتصر قلبه حزنًا على بعض من الأشجار قد يبست… «عم يحترق قلبي وقت عم يموت الزرع .. وعم بيحز بنفسي شجرة التين اللي يبست بعد ما صابها الصاروخ».
تغمر أبو علاء سعادة لا مثيل لها مع هذه الحالة من الرضا التي يعيشها، بيد أنها سعادة منقوصة بافتقاده لأهله ولأولاده، لكنه يستعيض عن ذلك بحالة إيمانية فريدة جعلته يدعو أمامنا: «يارب إذا بدك تاخدني بشي صاروخ أو رصاصة .. لا تاخدني لحتى اسمع جميع المساجد عم تصدح بكلمة الله أكبر .. صحيح أنا مشتاق لشوف زوجتي وأولادي بس مو هاد هو المهم … المهم اسمع كلمة الله أكبر عم تطلع من كل المآذن، ونشالله قاعد ما رح اتزحزح من مكاني لحتى تطلع هالروح أو ينصرنا رب العالمين»
يدندن أبو علاء أحيانًا للحرية وللناس الغائبين، ويصف شعوره بالوحدة والاشتياق لهم، بأنه كلما يشرب الماء يتذكر أولاده وأبناء جيرانه المسيحيين الذي عاش معهم لفترة طويلة، فتغرغر الدمعة في عينيه وتسقط بالكأس ليتابع شربه!!
أبو علاء عاش الثورة في داريا بكل تفاصيلها، يصف لنا تشييع شهداء الجمعة العظمية الذي شارك به، كنهر بردى يضخ الثوار، ثم يتابع «أنا عندي عقيدة بالله عز وجل وقت ربك يريدك تستشهد الصاروخ بدو يجيني وين ما كنت.. الحمد لله الحمد لله..»
أبو علاء ..اختار طريق المخلَصين وبذل نفسه لها .. يرجو متأملًا من الله أن يكتبه من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه..