عبادة كوجان- عنب بلدي
ينظر معظم سكان الغوطة الشرقية إلى الاقتتال بين فصائلها باعتباره سببًا رئيسيًا لتقدم النظام السوري وسيطرته على القطاع الجنوبي منها. لا مجال هنا للتفاؤل فالواقع مظلم والمستقبل أكثر سوداوية، يقول رجل خمسيني في دوما، ويتابع “لنا في التاريخ عبرة… سقطت الأندلس لخلافات فكرية ومناطقية بين ملوكها، وسقطت بغداد بعد حرب المذاهب، وتسقط الغوطة أمام أعيننا للسبب ذاته”.
لطالما كانت سوريا وسائر البلدان الإسلامية مسرحًا لتيارات إسلامية فكرية متناقضة، وشهدت خلال القرون الماضية خلافات مذهبية أريقت دماء الآلاف بسببها، ليتكرر المشهد اليوم في بقعة جغرافية ضيقة نسبيًا، تشهد حصارًا وقصفًا وتجويعًا من “عدو” اتفق جميع أبنائها على تسميته، واقتتال بين فرقاء الساحة “الجهادية”.
ورغم محاولات دفن الخلافات المذهبية إبان الثورة ضد الأسد قبل أكثر من خمس سنوات، إلا أنها ظلت حبيسة النفوس، تنتظر أي ثغرة أو سبب مباشر لتطفو على السطح مجددًا، فيحتدم الاقتتال وتصوب الأسلحة نحو الداخل “المحرر”، من حرب بيانات بين الشرعيين والإعلاميين، إلى اقتتال فصائل أضاعت بوصلتها فتشرذمت وانهارت أمام “العدو” المتلقّف.
اقتتال سلخ “سلة الغذاء” من الغوطة
يمكن القول إن بذور الخلاف بين قطبي الغوطة الشرقية (جيش الإسلام وفيلق الرحمن) بدأت بالنمو عقب قرار “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام” اندماجه في صفوف “الفيلق” قبل ثلاثة أشهر، وهذا ما أورث الأخير خلافات مع “الجيش”.
وللوقوف على ما ألم بالغوطة الشرقية من أحداث دموية منذ أواخر نيسان الماضي، وجب تقديم لمحة بسيطة عن القوى العسكرية فيها. يأتي “جيش الإسلام” أولًا بتشكيل منضبط نسبيًا، يليه “فيلق الرحمن” المنضوي في “الجيش الحر” وضم مؤخرًا “الاتحاد الإسلامي” لصفوفه، ثم يأتي تشكيل “جيش الفسطاط” والذي يضم فصيلي “جبهة النصرة” و”فجر الأمة”، وأخيرًا “حركة أحرار الشام الإسلامية”.
ويوجه “الاتحاد الإسلامي” المنضوي في “فيلق الرحمن” أصابع الاتهام لـ “جيش الإسلام” بوقوفه وراء العديد من الاغتيالات، كان آخرها محاولة اغتيال القاضي السابق للغوطة الشرقية، خالد طفور (أبو سليمان)، أواخر آذار الماضي، وهو الأمر الذي نفاه “الجيش” في بيانات رسمية. كذلك فإن معظم الانتقادات التي وجّهت لـ “الجيش” هو سعيه لإقصاء فصائل الغوطة والتفرّد في إدارتها عسكريًا واقتصاديًا، فقضى سابقًا على “جيش الأمة” وتسبب بحلِّ “الاتحاد الإسلامي” وذوبانه في “الفيلق”.
في الخامس من نيسان الماضي، أصدر “فيلق الرحمن” بيانًا يتضمن اتهامًا واضحًا لـ “جيش الإسلام” بالوقوف وراء محاولة اغتيال طفور، وقال إنه تمكن من القبض على أحد منفذي المحاولة، الذي يتبع مباشرة لـ “سرية الاغتيالات” في “الجيش”، وفقًا للبيان، وهو ما تسبب باتساع الشرخ بين الطرفين، وصل حد الاقتتال المباشر في الثامن والعشرين من الشهر ذاته، ولا سيما مع اصطفاف “جيش الفسطاط” مع “الفيلق” وتشكيلهما حلفًا عسكريًا.
في هذه الأثناء، كان النظام يحشد قواته في منطقة المرج سعيًا لاستكمال سيطرته عليها، وهذا ما حدث، فعقب انسحاب فصائل الغوطة من معظم نقاط رباطها في القطاع الجنوبي، دخلت قوات الأسد إلى بلدات القطاع وسيطرت عليها بالكامل، في التاسع عشر من أيار الجاري، وخسر أهلها بالتالي بيوتهم وأراضيهم الزراعية التي تعتبر “سلة الغذاء” في الغوطة الشرقية، بعد أربع سنوات على “التحرير”.
وائل علوان، المتحدث الرسمي باسم “فيلق الرحمن”، كشف في حديث سابق لعنب بلدي عن أعداد مهولة للقتلى والأسرى بين الطرفين تعكس حجم الصراع، ويبرر عمليًا نجاح الأسد وحلفائه في سلخ جنوب الغوطة، ويقول “إن رقم 300 قتيل بين الطرفين منطقي، كما لدينا 300 أسير من جيش الإسلام، بينما يأسر الجيش 100 من مقاتلينا”، هذا كله في غضون ثلاثة أسابيع.
اتجاه نحو حلحلة الأمور للوصول إلى تهدئة شاملة في الغوطة الشرقية، غداة مبادرات جهات دولية وشخصيات سياسية ودينية، إلى جانب تحذيرات فصائل “الجيش الحر” وتأكيدها بالوقوف في مواجهة “فيلق الرحمن” على اعتباره “الطرف الرافض للهدنة”، بحسب بيان صدر الجمعة 20 أيار، وما تبعه من إطلاق “جيش الإسلام” سراح تسعة موقوفين من مقاتلي “الفيلق” كبادرة “حسن نية”.
“نجوم” الاقتتال في الإعلام وفضاء الإنترنت
“مؤججو الفتنة والداعين لها”، وصف أطلقه ناشطون سوريون على إعلاميي و”شرعيي” الفصائل المتناحرة في الغوطة الشرقية، فالبيانات الاتهامية، والمنشورات المحتقنة، والعبارات الحادة، ملأت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام السوري والإقليمي أيضًا.
وهنا نسلّط الضوء على أبرز إعلاميي و”شرعيي” فصائل الغوطة الشرقية:
شرعيا “جيش الإسلام”: سمير كعكة (أبو عبد الرحمن)، أبو هاشم الوزير.
شرعيا “فيلق الرحمن”: أبو ياسر القادري، خالد طفور (أبو سليمان).
شرعيا “جيش الفسطاط”: أبو عبد الله، أبو محمد الأردني (شرعيان في جبهة النصرة).
متحدثو الفصيلين: وائل علوان (فيلق الرحمن)، إسلام علوش وحمزة بيرقدار (جيش الإسلام).
خلافات فكرية ومذهبية.. أسباب عميقة للصدام
تقول إحصاءات تقديرية إن نحو 80% من السوريين هم من المسلمين السنة، وإن معظمهم يأخذون الفقه عن مذهبي الإمامين “أبو حنيفة” والشافعي، لكن مدينتي دوما والرحيبة في ريف دمشق شكلتا استثناءً في الحالة السورية، إذ يتبع معظم أبنائهما لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو المذهب الذي اتبعه سابقًا محمد بن عبد الوهاب (مؤسس الفكر الوهابي)، وأصبح المتبع رسميًا في السعودية وبعض دول الخليج العربي.
وشكّلت دوما منذ عدة قرون عاصمة للمذهب الحنبلي في بلاد الشام، وكان شيخها أحمد صالح الشامي، المتوفى عام 1993، مفتي “الحنابلة” في المنطقة، بينما كانت دمشق المجاورة وبلدات الغوطة الشرقية المحاذية تأخذ عن الفقهين الحنفي والشافعي والمدارس والتيارات الصوفية التي انبثقت عنهما.
وتحدث باحث وصحفي من دوما لعنب بلدي أن المدينة تحوّلت على يد الشيخ عبد الله علوش (والد مؤسس جيش الإسلام زهران علوش) إلى مركز للدعوة السلفية، المنبثقة عن المذهب الحنبلي، ونمت الدعوة السلفية فيها بشكل كبير، لتكون ندًا للتيارات الصوفية في الغوطة الشرقية، والتي تأثرت سياسيًا بنهج جماعة “الإخوان المسلمين”، ولا سيما في القطاع الأوسط منها.
وأشار الباحث (رفض كشف اسمه) إلى أنه ومع تطور الثورة واتجاهها نحو العسكرة، أسس زهران علوش “سرية الإسلام” لتكون أبرز فصيل مسلح في دوما ذي رؤية إسلامية سلفية واضحة في الإعلان عن التأسيس والمسمى، ليتزامن ذلك مع تأسيس فصيل “كتائب شباب الهدى” في الغوطة الشرقية، ويكون واجهة لتيار مغاير عبّر عنه الباحث مجازًا بـ “المدرسة الشامية التقليدية”، التي تقدّم صورة واضحة للحركة الصوفية المتناغمة مع نهج “الإخوان المسلمين”.
تطور فصيل زهران علوش الصغير ليصبح فيما بعد “جيش الإسلام” ويضم آلاف المتطوعين من أبناء دوما والغوطة الشرقية، تزامنًا مع الإعلان عن تأسيس “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام” والذي شكّلت “كتائب شباب الهدى” نواته، إلى جانب الإعلان عن تأسيس “فيلق الرحمن” من عدة اندماجات في الكتائب المحلية والضباط المنشقين، وعرف عنه وضوح أجنداته المتمثلة بإسقاط النظام السوري، وشكّلت الفصائل الثلاثة في آب 2014 ما عرف باسم “القيادة الموحدة” تحت قيادة زهران علوش.
إلى هنا كانت الأمور تبدو على ما يرام، وأن التطور العسكري في الغوطة الشرقية بوضع نموذجي في مواجهة آلة الأسد العسكرية المتمركزة على أطرافها، لكن الواقع كان مغايرًا تمامًا، فرغم حالة “الوحدة” بين الفصائل الثلاثة، وإعلان ياسر القادري (أبو محمد الفاتح، قائد الاتحاد الإسلامي)، نائبًا لزهران علوش في “القيادة الموحدة”، والنقيب عبد الناصر شمير (قائد فيلق الرحمن) قائدًا عسكريًا لها، إلا أن النزاعات بين الأركان الثلاثة بدأت بالظهور جليًا منذ آب 2015.
الباحث الخبير في شؤون فصائل الثورة السورية، أحمد أبازيد، اعتبر في مقال نشره عبر مدونته الشخصية بتاريخ 23 نيسان الماضي، أن الأخطر من “الاحتقان العابر بين فيلق الرحمن وجيش الإسلام”، هو “ما يقوم به فئة من ناطقي الفريقين وأنصارهم، من ترسيخ الخلاف المذهبي كسبب للخصومة بينهما، سواء من يشنّع على الجيش بتوصيف الوهابية، أو من يطعن بفكر وتيار مشايخ الأجناد (الذين انتقلوا للفيلق)، بكونهم تلامذة البوطي أو مبتدعة”، مردفًا “لا يعني هذا تجاهل أن الاختلاف المذهبي حقًا كان العلة الأولى للافتراق بينهما، ولكن مهمتنا تدبر اختلافاتنا، لا تقبل كونها أسبابًا مبررة للعداوة”.
وخلص أبازيد في مقاله إلى أن “السلفية كانت وستبقى، والمدرسة الشامية بمذهبيتها وأشعريتها وتصوفها الوسطي كانت وستبقى أيضًا، والإسلام السياسي أو الجهادي كذلك، ولن تتمكن دعوة ولا قوة من إنهاء طرف، ولن يستفيد فصيل من مماهاة قضيته الثورية بنشر هويته الفكرية، إلا أنه يضع نفسه بمواجهة فصائل ومجتمعات محلية وشعوب بأكملها، والناس يؤيدونك لأن قضيتهم معك ضد النظام واحدة، وليسوا مضطرين للإعجاب بك وتشجيعك على قضية مذهبية لا تعنيهم”.
لماذا تحالفت “النصرة” مع “الفيلق“؟
تذهب بعض الآراء إلى أن إعلان “جبهة النصرة” عن تشكيل “جيش الفسطاط” في الغوطة الشرقية (الذي يضم إلى جانبها “لواء فجر الأمة”)، كان موجهًا لتصعيد مستقبلي مع “جيش الإسلام”، وليس لتثبيت محاور الاشتباكات مع قوات الأسد ومنع تقدمه من محور المرج، وهو ما دعا “حركة أحرار الشام الإسلامية” في الغوطة إلى عزوفها عن دخول هذا الحلف، بعد الإعلان عن ذلك سابقًا.
“النصرة” التي رفضت مرارًا دخولها “القيادة الموحدة” بزعامة زهران علوش، عرف عنها مواقفها المناهضة لأي مشروع جامع تحت مظلة “جيش الإسلام”، بتبريرات عامة لا تختلف كثيرًا عما قاله سابقًا “الاتحاد الإسلامي” و”فيلق الرحمن” فيما بعد، والتي تتلخص بتنفيذ اغتيالات بحق مشايخ وعلماء الغوطة، والاستبداد بالإدارة فيها.
لكنه ووفقًا لما أشار إليه الباحث من الغوطة الشرقية، وما رصدته عنب بلدي في بيانات ومنشورات داخلية لمشرعي “النصرة”، فإن حالة العداء لـ “جيش الإسلام” تأتي كونه ينتهج “السلفية الجامية” وهي عقيدة “فاسدة”، بحسب تعبيرهم. ويطلق تعبير “الجامية” على تيار سلفي انتشر في ثمانينيات القرن الماضي في السعودية، ويدعو إلى “السمع والطاعة وعدم الخروج على الحاكم الجائر”.
ويمضي مشرعو “النصرة” في اتهامهم، انطلاقًا من كون “جيش الإسلام” يلقى دعمًا عسكريًا وماديًا من السعودية، ويتلقون أوامرهم منها ولا يخالفون الأسرة الحاكمة فيها، بحسب بياناتهم، بينما ترى “النصرة” في “آل سعود” حكامًا “بغاة” وجب قتالهم، استنادًا إلى أدبيات تنظيم “القاعدة”.
في الثالث عشر من أيار الجاري، وعقب طرد مقاتلي “جيش الإسلام” من مدينة زملكا، ألقى “أبو عبد الله” و”أبو محمد الأردني”، وهما الشرعيان في “جيش الفسطاط” و”جبهة النصرة”، كلمة في مسجد المدينة، هاجما من خلالها “الجيش”، مستشهدين بأقوال “الإمام ابن تيمية” (أبرز علماء السلفية في العصر العباسي)، واعتبرا أن “الشرع يقول: يجب أن يقاتل جيش الإسلام حتى لو أبيدوا عن بكرة أبيهم، فقتال هؤلاء من أجوب الواجبات، وسنسعى لأن نقيم حد الله عز وجل حتى لو فنينا عن بكرة أبينا”.
الكلمة التي نشرها “جيش الفسطاط” كتسجيل صوتي عبر “يوتيوب”، أوضحت عدم رضا الأهالي الذين حضروها عن تصرفات “جيش الفسطاط” و”فيلق الرحمن”، في تسجيل اعتبره ناشطون “فضيحة” تدين “النصرة” و”الفيلق” على حد سواء، بعدما أكد أحد المدنيين قيام الفصيلين باعتقال المدنيين وضربهم، وأن التجاوزات بمعظمها كانت منهما وليس من “جيش الإسلام”.
تحالف “النصرة” كفصيل سلفي جهادي يتبع تنظيم “القاعدة” مع “فيلق الرحمن” الذي ينتهج “الإسلام الوسطي المعتدل” يأتي في سياق المصلحة الواحدة لكلا الجانبين في إقصاء “جيش الإسلام”، ولا يعني بالضرورة أن الطرفين على درجة من التقارب، وفقًا للباحث، معتبرًا أنه “تحالف المرحلة” وسينهار مستقبلًا لاشك، مذكّرًا بصدامات مسلحة حدثت بين الطرفين العام الماضي، وهو ما يشير إليه وائل علوان في تصريح سابق، حين قال “نحن ندرك خطورة منهج جبهة النصرة، المنهج الاستعلائي الذي يجد نفسه الفرقة الناجية، ويرى غيره ضالًا ومبتدعًا”.
لا حل يوقف استنزاف قوى المعارضة في الغوطة الشرقية أو في أي ركن من سوريا، إلا باللجوء إلى قضاء موحد ومؤسسات ثورية جامعة، لا تمس المعتقدات والتيارات الفكرية والدينية على الساحة السورية، ولا تجعلها بالتالي مطية لاقتتال أو تنازع على الحكم، كما يرى ناشطو الثورة، وهو ما أكده أحمد أبازيد في نهاية مقاله، بالقول “ينبغي أن تكون السنوات الخمس قد علمتنا عدمية طموح أي فصيل لاحتكار مشروع الثورة وتمثيل الدين، وأن الحلّ داخل الثورة هو بإدارة اختلافاتنا ضمن مبادئ متوافق عليها ومؤسسات مرجعية، أما حسم الخلاف فهو محصور بأعدائنا الجذريين”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :