اليوم الأخير من نيسان “خنَق ضحكاتهم”
من ناجية في “عين جالوت” إلى فائزة بـ “بيهانس سوريا”
هنا الحلبي – عنب بلدي
“حاولتُ العودة لتعليم الأطفال… اشتغلتُ معهم أربعة أشهر، ولكن نفسيتي تعبت كثيرًا، وكنتُ أبكي كل يوم تقريبًا، فتركت العمل بشكل نهائي”، هكذا حاولت مشاعل الشيخ العودة لحياتها الطبيعية بعدما نجت من مجزرة مدرسة “عين جالوت” في حلب.
المجزرة نفذها طيران النظام السوري عندما قصف المدرسة في حي الأنصاري بصاروخ فراغي، صباح اليوم الأخير من نيسان 2014. كان طلاب المدرسة يجهّزون لافتتاح معرضٍ خاصٍ بالرسم في نفس اليوم، وأدى القصف إلى نحو 25 ضحية، وعشرات الجرحى.
وقال مركز حلب الإعلامي، المتخصص بتوثيق الأحداث الميدانية في حلب، حينها إن “الطيران الحربي استهدف مدرسة عين جالوت، ما أدى لاستشهاد أكثر من 25 طفلًا من طلاب المدرسة لا تتعدى أعمارهم 12 عامًا”.
مشاعل هي معلمة الرسم التي أشرفت على رسم لوحات المعرض، وتطوعت لتدريب ثلاثة مدارس في حلب، بداية نيسان. وتقول لعنب بلدي “صوت الطائرات الحربية كاد يخترق غشاء الطبل لآذاننا، كنت أشعر بخوف يسيطر علي.. كنت مرتبكة ولكن أحاول ألا أظهر ذلك وأُخيف من حولي، فأمثّل القوة والجميع خائف”، كانت تلك الخمس دقائق الأولى لمشاعل في “عين جالوت”.
“يومًا بعد يوم صرت أستمدّ الشجاعة من وجوه الطلاب، وكان صوت إنشادهم لأغاني الثورة: سوف نبقى هنا، وطالع استشهد يا إمي، يعلو فوق صوت الطائرات”.
بدأت مشاعل دروس الرسم، وكانت الطالبات خاصة يجدن فيه تنفيسًا لهن، وكنّ يعطينه كثيرًا من الوقت، كما تقول مشاعل، التي وصفت رحلتها “كنت والطالبات متفائلات بأننا سنضع بصمة ربما يصحو ضمير العالم بها.. كان إصرار الطالبات يزداد يومًا بعد يوم، وكانت تحيطهم هالة غريبة من الهدوء والوقار، تنسيني عنف الحرب والدمار الذي يحيط بمدينة حلب”.
“مضت الأيام بسرعة”، كما تقول مشاعل “عشت خلالها مشاعر ممتزجة بين الخوف والإصرار والحب والسعادة…”.
في “هدنة كاذبة” يوم المعرض كان الموعد المنتظر، وتضيف مشاعل “كنا ننتظره جميعًا، وبدأنا التحضير له واختيار اللوحات ووضعها في مكانها وشكلها المناسب”.
“ولاء وإسراء وعطاء وسمر وآية وطالبات أخريات، أتين دون سابق موعد للمساعدة واستمروا في التحضير والتجهيز حتى غروب الشمس، لم يكن يخطر لي أنه الغروب النهائي في حياتهن.. لقد كنّ كالشمس التي غابت عن حياتي”، وتؤكّد “ودعوني على أمل جديد موعده شروق الشمس”.
صباح المجزرة
“دخلت المدرسة صباح موعد المعرض، لأجد الروائح الزكية تفوح منها، والأصوات تعلو كأنه يوم العيد، والأطفال والمعلمات في حالة حركة كاملة والخوف والفرحة تعم المكان”، فقد أعلنت المدرسة يومها عطلة عن التدريس لإتاحة تنظيم المعرض.
كان الموجودون في المدرسة، بمن فيهم المديرة، منشغلين بتعليق اللوحات والتنظيم، وتروي مشاعل “دخلت قبل عدة دقائق من بدء المعرض، إلى أحد الصفوف ومعي طالبتان ومعلمة لننهي تعليق بعض اللوحات، وكنت أسمع صوت تحليق الطائرة، وأقول لنفسي: هدنة.. هدنة.. لن تضرب، وأهرب من صوتها بإنصاتي لإنشاد الطلاب في الصف المجاور.. وما هي إلا لحظات حتى اختفت الأصوات، ولم أعد أرى شيئًا”.
“ظلام.. كل شيءٍ ظلام، لا أعرف ما الذي ضرب جسدي، كنا نمسك أيدي بعضنا البعض أنا والطالبتان والمعلمة، مشكلّين حلقةً نخبئ رؤوسنا بها، بينما كانت رائحة الدم والبارود تفوح في كلّ مكان”.
كل ما تذكره مشاعل من ذلك الموقف أنها كانت تمسك بأيدي الطالبتين مصطحبة إياهما إلى القبو، وهنا تقول “بدأ الظلام يزول شيئًا فشيئًا لأرى الأشلاء في كل مكان، وأرى الشهداء ولا أميزهم”.
تحوّل ذلك اليوم بالنسبة لمشاعل من أملٍ إلى بصمة ألم ترافقها حتى اللحظة، على حد تعبيرها.
لم تكن “عين جالوت” المجزرة الأولى
مشاعل كانت طالبة في السنة الثانية بكلية الفنون الجميلة في جامعة حلب، وكانت في كلية العمارة، يوم قصفت منتصف كانون الثاني 2013، وبعد المجزرة خرجت إلى مدينة غازي عنتاب التركية، على أن تعود لحلب لتقدم الفحص.
علمت مشاعل خلال وجودها في غازي عنتاب أنها مطلوبة لدى أجهزة أمن النظام السوري، وتقول “كنت مستأجرة عند عائلة في حلب، بعد أن ترك أهلي منزلنا وخرجوا من سوريا، وعلمت أن الأمن جاء إلى منزل العائلة التي أقيم لديها وسأل عني وعن أختي، ثم اعتقل بسببي والد العائلة وابنه لـ 15 يومًا، ومن حينها لم أعد لمناطق النظام”.
كان بإمكان مشاعل أن تحصل على قبول في جامعات غازي عنتاب، لكنها فضلت العمل مع الأطفال على إكمال دراستها، وبدأت تعمل بدار للأيتام، وتقول “كان اللعب والعمل معهم ينسيني كل ذكرياتي المؤلمة، وكنت أقيم معهم بنفس الدار”، لكنها اضطررت لاحقًا لترك العمل، فعادت إلى المناطق المحررة من حلب في آذار 2014، وحينها بدأت رحلتها مع “أطفال عين جالوت والرسم”.
مشاعل تلملم نفسها
بعد المجزرة مكثت مشاعل في حلب حتى تموز، ثم غادرتها نحو غازي عنتاب، لتبدأ حياة جديدة فيها، وعادت إلى دار الأيتام ذاتها لتعليم الأطفال الرسم، “ربما عدت مبكرًا للتعامل مع الأطفال، ولم تكن جراحي قد التأمت بعد، ما أثر بشكل كبير على نفسيتي، وكنت أبكي كل يوم، ما جعلني أترك العمل بعد أربعة أشهر”.
لا تعلم لماذا تركت العمل بالتحديد “كنت محطمة حينها، ولم أترك الفرصة لنفسي لأرتاح، ومن حينها لم أعد للتعامل مع الأطفال، ولكني أشعر الآن بشوقٍ لهم”.
عادت الفتاة اليوم إلى الرسم، وتقول “الشيء الوحيد الذي أعادني للرسم هو أنني أريد إيصال رسالة برسمي”، وهو ما تعمل عليه برسم لوحات تمثل وضع حلب الراهن، إلى جانب انضمامها لفريق يصنع “أفلام كرتون” حول تأثير الحرب على الأطفال.
الفوز بجائزة “بيهانس سوريا” العالمية
قررت الفتاة، ابنة الـ 23 عامًا، والمثقلة بالذكريات التي تحملها من حلب، أن تشارك في معرض “بيهانس سوريا”، أحد نشاطات شركة أدوبي العالمية، في غازي عنتاب، يوم 16 أيار الجاري، مع فريق “أفلام الكرتون” الذي تعمل معه، ولكن الفريق انسحب لعدم جاهزيته، لتأخذ قرارًا بالمشاركة وحدها.
“كان قرارًا مفاجئًا، ولم يكن لدي أعمالٌ كافية، لكنني عقدت العزم على المشاركة لإيصال رسالة طالما آمنت بها”.
“كان لدي ثلاثة أعمال قديمة صنعتها عندما كنت في حلب، ورسمت خمس لوحات جديدة خلال أسبوع، وهذا ما جعلني أتردد في المشاركة، لاسيما أن كل المشاركين قدموا نخبة أعمالهم على مدى أعوام”، بحسب مشاعل، التي تضيف “قررت المشاركة لتوصيل الرسالة لا أكثر، بغض النظر عن القيمة الفنية”.
“عندما بدأ العرض خلال الحفل، تفاجأت بالمستوى العالي للأعمال المقدمة، وانتابني شعور بالتردد وفكرت للحظة بالانسحاب”، تقول الفتاة، مردفةً “لكن أختي شجعتني، وذكرتني أن هدفي بالمشاركة هو إيصال الرسالة”.
“عندما أذاعوا اسمي كفائزة أولى، كانت صدمتي كبيرة، وشعرت بفخر عظيم، لأنني استطعت فعلًا التأثير على الناس برسوماتي”.
التصويت على الجائزة يتم عن طريق الحضور، ما زاد شعور مشاعل بالفخر، لأن ذلك يعني أنها استطاعت “ملامسة مشاعر الحاضرين”، من بين 50 متسابقًا تقريبًا.
ربما يكون فوز مشاعل بالجائزة دفعة أمل تكسر الحاجز بينها وبين الرسم، لتتمكن من العودة إلى حياتها الطبيعية في مقتبل العمر، لكن ذلك لا يقلّل مما شاهدته مع آلاف غيرها في سوريا، عاد عددٌ منهم لسكة حياتهم لكن أصوات كثيرٍ منهم ماتزال “مخنوقة”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :