عنب بلدي – العدد 58 – الأحد 31-3-2013
إعداد مجموعة موزاييك – ألوان سوريا
فقدت المساجد والكنائس التي تمثل النسيج المتنوع للمجموعات الدينية في سوريا، قدسيتها في النزاع الذي تشهده حلب، ثاني كبرى المدن السورية، فتاريخ النظام السوري مع المساجد معروف جيدًا، إذ أنها غالبًا ما تكون مستهدفة أو تستخدم لغير غايتها السامية. ففي حماه خلال أحداث شباط 1982 الدامية نسفت قوات الوحدات الخاصة بالديناميت عشرات المساجد في المدينة بحجة صدور نداءات تحريض على الثورة من مآذنها. ومن بين المساجد المدمرة في حماه الجامع الكبير الواقع في «حي المدينة» القريب من القلعة الأثرية، وهو واحد من المواقع التعبدية النادرة في العالم، حيث احتضن -شأنه في ذلك شأن رصيفيه في دمشق وحلب- شعائرَ التقرب والخضوع للآلهة الوثنية، قبل أن يتحول إلى كنيس فكنيسة ثم مسجد.
والآن يتبادل النظام والمعارضة الاتهامات حول المسؤولية عن الأضرار الفادحة التي لحقت بالجامع الكبير بحلب، وهو أكبر جوامع المدينة، لكن من المؤكد أن الطرفين ساهما في الجريمة بشكل مباشر وقوي، وذلك بقبولهما تحويل الجامع والأسواق الأثرية والأماكن المحيطة بهما القديمة إلى ساحة حرب. وتاريخ النظام معروف مع المساجد، لكن عنصر المفاجأة في الأمر هو تلك اللامبالاة الواضحة التي أبداها مقاتلون متدينون بقوة، حيال الجامع الكبير، وعدم أخذهم بعين الاعتبار المخاطر التي تتهدده في ظروف مواجهة مسلحة مع النظام تتطلب تمركزهم داخله أو في محيطه. وسواء اتخذ المقاتلون من الجامع ملاذًا وتمركزوا داخله، أو أن قوات النظام هي التي تمركزت فيه ثم انسحبت منه تحت وطأة هجمات «الجيش الحر»؛ فإن قدْرًا مناسبًا من الشعور بالمسؤولية والحرص لدى المعارضة المسلحة، كان كفيلاً بدفعها بعيدًا عن هذا الصرح الجليل، مسافة تحول حتمًا دون إصابته بأية أضرار. خاصة إذا علمنا أن الاستيلاء على الجامع لا أهمية له على الإطلاق بالمقياس العسكري وفي سياق المعركة المحتدمة بحلب، الجامع الذي بناه الوليد بن عبد الملك عام 715م وأكمله أخوه الخليفة سليمان بن عبد الملك وكان قبلًا حديقة لكاتدرائية القديسة هيلانة، والكاتدرائية بدورها شُيّدت فوق الساحة الرئيسية «آغورا» من العهد اليوناني-الروماني. واستعملت موادًا من كنيسة قورش الشهيرة. ولكن العباسيين نقلوا أهم زخارفه إلى جامع الأنبار في العراق عند تخريبهم آثار الأمويين.
من جانبه أصدر لواء التوحيد بيانًا نفى فيه مسؤوليته عن حرق الجامع متهمًا الجيش النظامي بحرقه قبل انسحابه منه، وجاء في البيان «نكشف لأبناء سوريا أن قيادة لواء التوحيد أوعزت للكتائب المرابطة على مقربة من المسجد الكبير بعدم التقدم كي لا يمتلك النظام مبررًا لتدمير المسجد». وقد قرر الجيش النظامي الانسحاب من المسجد في الساعة الرابعة عصرًا، تاركًا وراءه ما يدل على بربرية وهمجية كبيرة، إذ أضرم النيران في جنبات المسجد، بعد أن نُهبت محتوياته ومن ضمنها شعرات الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) التي كانت محفوظة في المسجد، وتم تدمير جزء من المكتبة الإسلامية في الجامع والتي تحتوي على نفائس الكتب، وتقدر قيمتها بملايين الليرات السورية، كما أظهرت صور ومقاطع فيديو بثها «الناشطون» العثور على كمية من الذهب داخل الجامع قالوا إنه ذهب تمت سرقته من الأهالي في وقت سابق، كما تظهر المقاطع والصور عبوات مشروبات روحية وكتابات مسيئة لحرمة المساجد على الجدران. مما يشير إلى أن عناصر الجيش النظامي التي كانت متمركزة في الجامع تنتهك حرمة الجامع بإدخال هذه المشروبات وتعاطيها فيه، وقال «عبدالله. ت» الذي يرتاد المسجد منذ مدة طويلة «سمعت أن المسجد تضرر وأصيب بالرصاص وتحطم زجاج نوافذه، لكنني لم أتمكن من الذهاب إلى هناك». الحال لا يختلف كثيرًا بعد أن تقطع الطريق سيرًا على الأقدام، من الجميلية جهة باب جنين، بعد ساحة سعد الله الجابري والقصر البلدي، صوب السبع بحرات، حتى يشعر أحدنا وكأنه دخل في كتاب، أو كأنه داخل فيلم قديم. في تلك الأسواق التي يفضي كل ممر فيها إلى ممر آخر، أو ممرات، فيكون اختيار السوق التالي عشوائيًا، منها سوق الصابون، سوق العتمة، سوق النحاسين، سوق الحدادين، سوق العتيق، سوق الصوف، السويقة «حيث مستلزمات الطبخ»، سوق العطارين (التوابل والأعشاب)، سوق النسوان… أسواق تُفضي إلى أسواق، وعوالم هائلة من الصور والمشاهد التي تعجز الذاكرة عن تدوينها، حيث تابع العالم كله بحسرة وحزن الحريق الذي أتى على السوق القديم في حلب الذي احتفت به البشرية باعتبارها مما تعتز به من تراث.. وتعود أصول أسواق حلب إلى القرن الرابع قبل الميلاد حيث أقيمت المحلات التجارية على طرفي الشارع المستقيم الممتد بين القلعة وبباب انطاكية حاليًا، وقد أخذت الأسواق شكلها الحالي مطلع الحكم العثماني. وقد كانت تجارة حلب القديمة متمركزة في الأسواق والخانات التي كانت يسميها الحلبيون بـ «المْدينة» كما سمى اللندنيون لندن القديمة التي فيها الأسواق التجارية بــ «السيتي» أي المدينة، وتعتبر أسواق حلب من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي لما تمتاز به من طابع عمراني جميل إذ تتوفر نوافذ النور والهواء فتؤمن جوًا معتدلًا لطيفًا يحمي من حر الصيف ومن أمطار وبرد الشتاء، ويبلغ تعداد أسواقها 37 سوقًا، ومجموع أطوال هذه الأسواق على الجانبين 15 كم ومساحتها 16 هكتار، سوق الزرب، سوق العبي، سوق العطارين، سوق السقطيّة، سوق القصابية، سوق البهرمية، سوق باب انطاكية، سوق قره قماش، سوق الدهشة، سوق الحراج، سوق المناديل، وقد كانت سقوف الأسواق من الحصر والقصب وعندما احترقت عام 1868 أمر الوالي ببنائها مع نوافذ سقفية.
تاجر الأدوات المنزلية في مدخل السوق الشمالية «أحمد ن». يقول: “الحمد لله محلي لم يصب بأذى، لطف الله بنا وسبق الإطفاء النيران التي التهمت محل جاري». ويعمل احمد في محل أبيه الذي ورثه بدوره عن والده، وهو أحد المحظوظين الذين تمكنت فرق الدفاع المدني من الوصول إلى محالهم وإطفاء النيران المندلعة فيها «فنجا المحل والبضاعة التي فيه والمقدرة قيمتها بأكثر من ثلاثة ملايين ليرة سورية (نحو 40 ألف دولار أميركي)». ويضيف أحمد «رغم سعادتي إلا أنني لست مطمئن القلب، فالاشتباكات ما زالت مستمرة، وقد تندلع الحرائق في أحد المحال المجاورة في أية لحظة، ومحالنا ليست في أمان بعد».
وفي سوق العواميد الخاضع لسيطرة القوات النظامية، يراقب تاجر الصوف الخمسيني «محمد ب.» ونجلاه الحريق. حيث ورث محمد المحل عن أبيه وعمل فيه أكثر من 40 عامًا، يقول: “لم أتخيل يوما أن أغدو عاجزًا عن الدخول إلى محلي. إنها حرب قذرة ونحن من يخسر فيها، خسرنا أعمالنا ومصالحنا والآن نخسر محالنا التي تحترق أمام أعيننا”.
ومحمد واحد من 30 تاجرًا فقدوا محالهم في سوق القطن الذي احترق بالكامل بحسب ما علموا من جيران لهم في أسواق أخرى، مع عدم إمكانية وصول سيارات الإطفاء بعد اندلاع الحرائق جراء اشتباكات بين القوات النظامية والمسلحين، واستمرت بوتيرة متقطعة خلال الأيام الماضية.
وقال «صادق ع.» صاحب سبعة محال ورثها أبًا عن جد في حلب أن أكثر ما يقلقه ليس قيمة البضائع الموجودة في المحل، بل «احتمال احتراق ذكريات طفولتي، (وهي) لن تعوض بثمن»
وناشدت مديرة اليونسكو «إيرينا بوكوفا»، جميع الأطراف أن تقوم بكل ما في وسعها لحماية أسواق حلب الشاهدة على تاريخ البشرية، والتي أسهمت إسهامًا كبيرًا في نمو الجمهورية العربية السورية وازدهارها، موضحة أن هذه الأسواق ستؤدي وبلا شك أيضًا دورًا بالغ الأهمية في عملية إعادة البناء، بالنهاية حلب تحترق والنظام يطبق عبارته الشهيرة «الأسد أو نحرق البلد».
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :