عنب بلدي – العدد 58 – الأحد 31-3-2013
أحملك الآن على جبيني بين دمي وموتي.. أأنتِ ثورة أم مجزرة… سجن أم مقبرة… أم نسيتِ أنكِ عرائش عنب؟!..
أراكِ كل لحظة بصورة، أراكِ أطفالًا يجرجرون أحشاءهم، يسجدون لكل قيد، ويتكوّمون في زاوية غرفة، يرسمون صورة لدمية ورغيف خبز وكعكة سيحملها لهم والدهم عند عودته، فإذا به يعود حاملًا دمه، وأحلام تلك الطفلة قد مُزّقت لتتقوقع على نفسها تبكي والدها وتبكي وحدتها، في ظل نزوحها ولجوئها إلى أبواب منازل صرعى لا تعرف لها سبيلًا للإغلاق، وأراكِ أمًا ثكلى فقدت اثنين أو ثلاثة من أبنائها والبقية ينتظرون وما بدّلوا تبديلًا، وزوجة تنتظر عودة زوجها، فإذا به يعود مكفنًا على الأكتاف شهيدًا، ولا يغيب عن مخيلتي طيف أبنائك المعتقلين خلف القضبان، أو المهجّرين خارج أرضك، بعيدًا عن آلة الموت التي تعصف بهم، ليمر مع شريط ذكرياتي أنقاض لمنازل لم تعد تستوعب أبناءها، إذ ضاقت أرضك عليهم بما رحبت فلفظتِ بعضهم خارج أرضك، وواريتِ الثرى على جثامين آخرين، كانوا زينة عرش الإنسانية فوق ثراكِ، فلم أعد أرى فيكِ دار العنب البلدي الداراني، حيث اعتاد أهلك وفي هذا الموسم أن يقلّموا عرائش عنبك البلدي، وأن يسقوها ماء من بردى والأعوج، ولكن هذا الموسم أبت عرائش العنب أن تخون أمانة أصحابها، وآثرت أن ترتوي من دمائهم، علّها تثمر هذه المرة عنبًا من طعم آخر، وبلون آخر، وبقيت كلمات أصحابها –ميّتة- أعراسًا من الشموع لا حراك فيها، حتى إذا مات البعض منهم لأجلها انتفضت حيّة، وعاشت بين الأحياء.
أما عندما نتجول في شوارعك -أو ما كانت تسمى شوارع- فقد بتنا نصاب بعمى الألوان والأسماء، نحبو بين ركام الجدران نتحسّسها فتدمي أصابعنا، إذ لم يعد الطلاء يستر عورتها، وعلى كل جدار ترى صورة شهيد واسمًا لآخر، وصورة معتقل كانت معلّقة في صدر المنزل حتى يتذكره أطفاله الصغار، ثم تصطدم يديك بأشواك لم يسترها الحبر الممزوج بالدم، إذ كُتبت بها عبارات عن الحرية، ففاح طيب عطرها، وقسى ملمسها، وهنا فلنغمض عيوننا عن مظاهر الخراب، ولنسدّ أنوفنا من رائحة الدماء، ولنضع في آذاننا وقرًا، ولننتظر صوت المؤذن علّه يصدح مرة أخرى في داريا قائلًا:
الله أكبر…الله أكبر…الله أكبر على كل من طغى وتجبّر…
وعلّ موسم العنب الداراني ينضج هذه المرة عنبًا مختلفًا ألوانه.. فيه شفاء لقلوب الملتاعين الذين ضحّوا بالغالي والرخيص متمسّكين بصدق نهجهم.