“معظمنا لم يحظ بمشاهدة أهله أو المكوث معهم”
النزوح يخلّف آلامًا لأهالي ومقاتلي “الوعر”
جودي عرش- حمص
لم تتمكن السيدة “س. د” من وداع ابنها الذي قتل خلال اشتباكات داخل حي الوعر في مدينة حمص، بسبب الحصار المطبق على الحي، بينما حُرم أحمد أبو خالد من رؤية عائلته التي لا تبعد عنه سوى بضعة كيلومترات، منذ ثلاث سنوات، كما أن والدته لم تعلم بإصابته على إحدى الجبهات إلا بعد أشهر من حدوثها، فأحمد آثر عدم إخبارها رغم آلامه درءًا لدموعها التي وصفها بـ “النفيسة جدًا“.
ويعتبر النزوح الذي طال الحي الحمصي، كما طال سابقيه، هو السبب الرئيسي في معاناة هؤلاء، والذين يمثلون نماذج لآلاف القصص الموجودة في الحي.
طالت حركة النزوح جميع مناطق المعارضة في محافظة حمص، وكان أحد أهم أسبابها التصعيد العسكري العنيف الذي تعرضت له خلال ست سنوات، إضافة للحصار، بحسب الناشط الإعلامي، رضوان الهندي، الموجود حاليًا في حي الوعر، بعدما نزح من مسقط رأسه، حي الخالدية، وسط المدينة.
وقال الهندي “كان حي الوعر أحد أكبر المخازن البشرية في حمص، واحتوى بعد مجزرة كرم الزيتون التي نفذتها قوات الأسد في آذار 2012 حوالي نصف مليون نسمة، لكنه بعد تطويقه من قبل قوات النظام وخضوعه لحصار وتصعيد عنيفين، لا يحتوي اليوم سوى مئة ألف نسمة”.
حركة النزوح هذه، كان لها أثر سلبي كبير على حياة المدنيين والمقاتلين في الحي، لكنهم لم يستطيعوا الاعتياد عليها رغم تكرارها، بحسب وصف الهندي، وتابع لعنب بلدي “إن مشهد النزوح كان قد أوقع الألم في قلوب قاطني الحي، مدنيين كانوا أو عسكريين، فلا يستطيع أحدنا أن يتخيل مشاهدة عائلته أصبحت ضربًا من ضروب الخيال، وأنه ربما سيقتل تحت وطأة الجوع أو القصف أو المعارك، دون أن يرى والديه”.
عددٌ كبيرٌ من المقاتلين في الحي بعيدون عن عوائلهم، منذ مدة تترواح من ثلاثة إلى خمسة أعوام، ويعود هذا إلى وجود مقاتلين في الوعر من أحياء حمص وريفها، إلى جانب وجود مقاتلين من فئة المنشقين عن جيش النظام، وهؤلاء لم يشاهدوا عائلاتهم من لحظة انشقاقهم، وفقًا للهندي.
مآس تلمّ بالمقاتلين
لم تكن حال مقاتلي الحي المحاصر جيدة، في ظل حرمانهم من ذويهم، ولا سيما بعد اضطرارهم لمتابعة الأمور المعيشية إلى جانب أعمالهم العسكرية على الجبهات، كما يقول أحمد أبو خالد، أحد مقاتلي المعارضة في الحي.
وقال أبو خالد، في حديث إلى عنب بلدي، إن “معظمنا لم يحظ بمشاهدة أهله، أو المكوث معهم بسبب خضوع الحي لحصار عنيف، وهذا ما دفعنا للإلمام بجميع الأمور المعيشية، كالطبخ والغسيل والتنظيف، الأمر الذي نجده صعبًا أن نوفق بين هذه الأعمال جميعها إلى جانب مسؤولياتنا على الجبهات، لكننا استطعنا أن نتقن الأعمال المنزلية.. فالمثل يقول: مجبر أخاك لا بطل”.
لم تمنع الابتسامة وخفة الظل المرافقة للمقاتلين في معظم أوقاتهم، من شعورهم بالوحدة، والذي يتسلل إليهم بين الفينة والأخرى، فحرمانهم من عوائلهم لطالما يشعرهم بالأسى، وأردف أبو خالد “أشعر بالألم في كل مرة أحادث فيها والدتي، التي لا تبعد عني في الحقيقة سوى بضعة كيلومترات قليلة، وأذكر أنني في أكثر من مرة جلست أبكي كالطفل، وكانت إحداها عندما باركت لأختي الوحيدة بزواجها، ومرة أخرى عندما أنجبت طفلًا لم أشاهده، وقالت لي إنه يشبهني كثيرًا”.
ابتعاد المقاتلين عن ذويهم مكانيًا، لم يسمح لهم بالإفصاح لهم عن مصائبهم أو الإشكاليات التي تواجههم، خوفًا على مشاعرهم، وتابع المقاتل “لا يمكننا القول لعائلاتنا بأننا نتألم مهما وصل بنا الحال من جوع ومرض أو كرب، وعندما أصبت العام الماضي بانفجار أسطوانة صاروخية على إحدى الجبهات، نجحت بإخفاء الأمر عن أمي، رغم سؤالها المتكرر عن صحتي، وإلحاحها بمحادثتي هاتفيًا عوضًا عن الرسائل النصية.. لم أخبرها عن إصابتي خوفًا على قلبها من الانفطار، وخوفًا من ذرف الدموع، فدموعها عندي نفيسة جدًا ولا تقدر بأي ثمن”.
أمل أحمد أبو خالد بلقاء عائلته كبيرٌ جدًا، رغم قناعته بأن هذه الأمنية لن تتحقق سريعًا، وأردف “مازلت أحيا وأقاتل على أمل أن أحظى برؤيتهم قريبًا، وإن كان خذلان العالم لثورتنا وعدم إحساسهم بما نعانيه بات علنيًا وواضحًا، لكن هذا لا يمنعني من القتال والدعاء للقائهم في صلاتي، فالله على كل شيء قدير”.
وداعٌ خلف الشاشات
لم يكن حال ذوي المقاتلين المتفرقين داخل المدينة وخارجها أفضل من السيدة “س. د”، والتي ماتزال تعيش في حسرة كبيرة، حسب وصفها، لا سيما بعد الحصار المفروض على الوعر، ما منعها من توديع ابنها الذي قتل في إحدى الاشتباكات المندلعة على أطرافه.
وقالت “غادرت حي الوعر منذ عامين، ظنًا أني سأعاود الرجوع قريبًا، لكن مسلسل التهجير الذي طالنا في حي باب السباع تكرر مجددًا، ولم أعد إلى حي الوعر أبدًا، أما عن ولدي فكنت قد فارقته وأودعته في الحي بسبب انتمائه لأحد فصائل المعارضة في المدينة، وعدم قدرته على الخروج بعدما أصبح مطلوبًا للنظام السوري، وكان طلب مني الخروج بسبب التصعيد العسكري العنيف الذي طال الحي”.
صدمة “س. د” كانت كبيرة لدى تلقيها خبر مقتل ولدها، واضطرارها إلى توديعه بطريقة غريبة روتها لعنب بلدي “كنت في ذاك اليوم قلقة جدًا لسبب لم أستطع إدراكه حينها، وتيقنت أن مكروهًا على وشك الحدوث، وبعد محاولات عديدة للاتصال به عبر الهاتف، من دون إجابة تريح قلبي، بدأت أتلقى زيارات وهواتف من أقربائي بحجة الاطمئنان على صحتي، ومن ثم بدأوا بالتلميح على وجوب قبول قضاء الله وقدره.. أحسست بالذعر وشعرت بالضياع وهرعت إلى حاسوبي لأرى خبرًا يطفئ نار قلبي أو يؤججها، عندها شاهدت صور ابني المكفن تزين مواقع التواصل الاجتماعي، شرعت بتقبيل الحاسوب علّي أشتم رائحة ولدي التي لطالما اشتقت إليها، وبدأت أبارك لنفسي لأنني أنجبت طفلًا غدا بطلًا وعريسًا بنيله جنان الرحمن..”.
يعد حي الوعر هو آخر معاقل المعارضة في مدينة حمص، ويخضع في هذه الأثناء لحصار خانق، بعد تعليق هدنته التي أبرمت مع النظام السوري مطلع كانون الأول من العام الماضي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :