محمد رشدي شربجي
على مدى اثني عشر عامًا، شكل حزب العدالة والتنمية مثالًا لطالما استخدمه الإسلاميون العرب كمثال ناجح للمزاوجة بين الحداثة والإسلام، وكثيرًا ما تم الاستشهاد بالتجربة على قدرة الإسلام على مسايرة الحداثة وإنشاء دولة قوية عصرية.
مسار الإسلام والعلمانية في تركيا مسار طويل، وتخلله عدة انقلابات دموية وبيضاء حتى توصل الإسلام السياسي إلى صيغته الحالية التي جسدها حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002، وتمثلت باختصار باعتبار نفسه حزبًا ليبراليًا علمانيًا يسعى لأن يأخذ المتدينون حقهم الطبيعي بالوجود ضمن المجتمع كغيرهم.
يعتبر عدنان مندريس من الشخصيات المرجعية الرئيسية بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، ويرد ذكره في النظام الداخلي للحزب، فمندريس رئيس وزراء تركيا بين عامي 1950 و1960، والذي انتهى به المطاف على أعواد مشانق الجيش حامي العلمانية التركية، كان مع إفساح المجال للدين ليأخذ مكانه في المجتمع دون إدخاله في السياسة، وهو بذلك خالف التقاليد الأتاتوركية المؤسسة للدولة التركية الحديثة في العداء المطلق للإسلام. وبالرغم من سياسة مندريس المتصالحة مع الإسلام داخل تركيا، إلا أنه اعتمد سياسة ليبرالية متماشية مع الغرب بالمطلق خارج تركيا، خاصة مع الخطر السوفيتي، والذي تزايد بطلب الاتحاد السوفيتي السيادة على مضيق البوسفور التركي، ففي عهد مندريس تم توثيق التعاون بين تركيا وإسرائيل لمستويات غير مسبوقة تمثل باتفاقية 1958 ضد التطرف ونفوذ الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط، كما انضمت تركيا لحلف الناتو في 1952.
ليس الإسلام السياسي في تركيا، إسلامًا سياسيًا كما فهمه الإسلاميون لدينا في العالم العربي، فحزب العدالة والتنمية لا يؤمن بالعلمانية تقية، ولا يطالب بخلافة إسلامية عثمانية، ليس خوفًا من انقلاب الجيش ومؤامرات الغرب، وإنما لأنه لا يريد ذلك أساسًا، بل هو حزب علماني سياسيًا، يتبنى الليبرالية وتحرير السوق والخصخصة اقتصاديًا، وكثيرًا ما قوّل الإسلاميون العرب الحزب ما لم يقله فأرهقوه وأرهقوا أنفسهم. لا يفهم حزب العدالة والتنمية العلمانية كعداء مع الدين، بل يعتبرها ضمانة وحماية للدين كما نصح أردوغان، في 2011 بعد الثورة، إسلاميي مصر الذين استقبلوه استقبال الفاتحين في مطار القاهرة.
في البداية لم تغير تركيا من سياستها الخارجية، حتى استدارتها نحو الشرق الأوسط كانت بهدف خدمة المعنى الأسمى للسياسة الخارجية التركية الذي وضعه أتاتورك، وهو الانضمام لأوروبا “أن نكون أوروبيين”. وقد لخص أوغلو في كتابه القيم “العمق الاستراتيجي” هدف السياسة الخارجية التركية بقوله “التوجه شرقًا وتحصيل القوة للتوجه بها غربًا”، فقد أدرك الأتراك أن لتركيا مجالًا وعمقًا استراتيجيًا يمكن لها استغلاله لإقناع الأوروبيين أكثر بضرورة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
استغل “العدالة والتنمية” مطالب الاتحاد الأوروبي لإبعاد الجيش التركي عن السياسة، عن طريق تحالفه مع جماعة فتح الله غولن المتغلغلة في سلك القضاء، ولكن ثبت بعدها أن الاعتراضات الأوروبية على انضمام تركيا هي في أغلبها كيدية، ولن يسمح الاتحاد لتركيا أن تكون ضمن أعضائه مهما حدث، فتركيا دولة مسلمة بداية، ويقع 97% من جغرافيتها في آسيا ثانيًا، وهو ما أفقد أي قيمة للإصلاح السياسي والديمقراطي بنظر “العدالة والتنمية”.
مع انطلاق الربيع العربي شعر الأتراك أن لحظة تركيا قد حانت، وأن حلفًا سياسيًا يمتد من شمال إفريقيا في ليبيا مرورًا بتونس ومصر وسوريا لن يكون أمرًا مستحيلًا، وهو ما جعل الأترك يتخلون عن سياسة “صفر مشاكل مع الجوار”، لصالح الانخراط الأكبر بالجوار عبر دعم حركات الإسلام السياسي، ولكن الرياح لم تجر كما يشتهي أردوغان، وتعثر الربيع العربي وبالنهاية خسرت تركيا من نفوذها الكثير بدل زيادته.
منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة، عام 1923، وهي محكومة بعقلية حرب الإنقاذ التي خاضها أتاتورك ضد المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وحلفائهم داخل تركيا، ولذلك يرى أردوغان الفاقد الأمل من الانضمام للاتحاد الأوروبي أن سياسة نشطة لتركيا في محيط إقليمي مضطرب، لا يمكن أن تتم إلا من خلال الحزم داخليًا وخارجيًا وهو ما يفسر سلوك أردوغان، إلى حد ما، منذ احتجاجات جيزي بارك منتصف 2013.
هذا الحزم داخليًا تمثل بسلوك أردوغان ميلًا متزايدًا نحو الديكتاتورية والتسلط، وهو ما سبب خلافات وما يشبه “الانشقاقات” داخل الحزب، بداية مع عبد الله غول، الرئيس التركي السابق المؤسس في حزب العدالة والتنمية، والذي اتخذ موقفًا مناقضًا تمامًا لأردوغان في أحداث جيزي بارك، ثم بولنت أرينج، المؤسس في الحزب أيضًا، والذي اتخذ موقفًا مناقضًا تمامًا لأردوغان فيما يخص الأكراد، بل وحمل أردوغان مسؤولية تصعيد الموقف لأنه انقلب على اتفاق “النقاط العشر”، وأخيرًا داوود أوغلو، الفيلسوف وأحد أبرز منظري الحزب وصانع سياسته الخارجية، الذي استقال احتجاجًا على تدخل أردوغان بعمل الحكومة وعدم التزامه بصلاحياته الدستورية.
استقالة أوغلو تعني تحول حزب العدالة والتنمية رسميًا إلى حزب ديكتاتوري، يقود بلدًا نحو مزيد من الاستبداد، كانت الخيارات أمام أوغلو إما الانشقاق ومعه انشقاق السلطة الحاكمة بين الرجلين، أو الاستقالة، كما فعل، والمحافظة على تماسك الحزب والدولة، وعلى كل حال فقد أطلق أوغلو رصاصة الرحمة على التجربة التركية المتألقة والتي تعلمنا منها أشياء كثيرة، أهمها أن من طال به الزمن في موقع سياسي يتألّه.