تحديات تواجه “إعلام الثورة” ومحاولات لسلخه عن الواقع في سوريا
حنين النقري – عنب بلدي
لم تكن كلمة جريدة تعني لنا كسوريين شيئًا سوى ثلاث مفردات: “الثورة، البعث، تشرين”، صوتٌ واحد ونَفس واحد وبُعدٌ واحد لما يريد النظام نشره من أفكار وأخبار. يختلف ذلك جذريًا عن المشهد الإعلامي اليوم مع دخول الثورة عامها السادس، فنحن أمام عشرات المطبوعات السورية المنوعة من حيث التوجه والجمهور المستهدف والفكر وكيفية الطرح، يشمل ذلك صحفًا إلكترونية ومواقع ويب.
لكن هل يعني هذا التعدد أن “الإعلام الثوري” معافى وحر بشكل تام؟ وما التحديات التي تواجه الصحفيين السوريين اليوم؟ أسئلة وجّهناها لعدد من الصحفيين في الداخل والخارج.
من المجهولية إلى فصام الشخصية
يقول كريم، وهو اسم وهمي لصحفي من مدينة حماة، إن هاجسه الدائم كصحفيّ وناشط ثوري هو مجهولية هويته الثورية “كان التحدي الأول هو الأمان، كيفية الكتابة باسم مستعار والنشر باسم مستعار، تعليمات الأمان والاتصال عن طريق البروكسي، عدم حفظ ما يمكن أن يدينني على أجهزة الهاتف أو الحاسب، والحذر من أي تواصل مع أشخاص لا أعرفهم، حقيقة مازال هذا الهاجس مصاحبًا لي مع استمراري بالعمل الصحفي من مناطق خاضعة لسيطرة النظام، وهو ما لا يمكن أن يتسامح معه النظام في حال وقوعي في قبضته، لا سمح الله”.
لكن مع طول أمد الثورة بدأت المجهولية تتحول لتحد آخر حسب كريم، فالتفاعل مع قرائه أو حتى مشاركة رأي كُتب عن إحدى مواده وغيرها من الأفعال البسيطة أمور غير متاحة بالنسبة له، ويضيف “أشعر أحيانًا بفصام، فلي شخصيتان منفصلتان تمامًا، إحداهما موظف حكوميّ صالح يذهب كل يوم لوظيفته، والأخرى ناشط ثوري ينقل ما يحدث هنا وهناك، أتساءل دومًا متى أتصرف وفق جوهري وحقيقتي ويتوحد شطرا ذاتي؟”.
ما مصدر دخلك؟
يعمل كريم في جريدة ثورية بأجر جيّد يكفي تأمين معيشة عائلته الصغيرة، لكنه مضطر للالتحاق بعمل إضافي لتمويه مصدر دخله أمام محيطه، يضيف “دفعني سؤال من حولي عن مصدر رزقي إلى الالتحاق بالوظيفة الحكومية التي تموّه عملي الأساسي في الصحافة والتحرير الصحفي، لا أريد لمجهوليتي التي حافظت عليها خمسة أعوام أن تنهار لثغرة كهذه”، يتنهد كريم بحسرة، ويستدرك “رغم ذلك أتوق لأن يعلم الناس أن كريم هو أنا، وأنني من أكتب هذه الأفكار وأنقل هذه القصص”.
الحيادية مفقودة!
يكتب كريم في إحدى الصحف التابعة لتيار إسلامي، وهو ما يجعله مقيّدًا بالتوجه الفكري للقائمين على الجريدة، وقائمة المواضيع الممنوعة بالنسبة لهم، ويشرح بقوله “رغم أن الصحف تذيّل ما ينشر فيها على أنه يعبر عن رأي الكاتب لا الجهة الناشرة إلا أن ذلك غير دقيق، فالصحف لا تنشر رأي كاتب يخالف سياستها التحريرية أو أيديولوجيتها العامة، أُعيدت لي مقالة تحليلية لكتاب مهمّ عدة مرات، اكتشفتُ لاحقًا أن السبب هو كون مؤلف الكتاب (علمانيًا)، وغيرها الكثير من المواد على هذه الشاكلة”.
لدى كريم مخاوف خاصة يعبر عنها بقوله “أخشى أحيانًا أن نشابه إعلام النظام ونتفادى ذكر سلبيات الثورة في إعلامنا، أتمنى ألا يحدث ذلك”.
نحن محرومون من التدريبات الصحفية
ترى مها، وهي ناشطة إعلامية من ريف دمشق، أن صحفيي الداخل يعانون مشاكل من نوع آخر عن تلك التي يعانيها من يعملون في نفس المجال خارج سوريا، منها النقص في التدريب والارتقاء بالعمل إلى مستويات الاحترافية، وهو ما يعود إلى أن معظم المشتغلين في الحقل الإعلامي من غير المختصين أو الدارسين، علاوةً على صعوبة الحصول على فرص تدريبية لمن هم في الداخل السوري “أنا طالبة في كلية الهندسة، لكنني عملت في ظل الثورة على نقل الصور والأخبار للتنسيقيات ولزملاء صحفيين في الخارج، ورغم ممارستي للصحافة عدة سنوات وقراءتي مئات المقالات، إلا أن ذلك لا يغني عن قواعد الكتابة الصحفية وأساسياتها أكاديميًا، وهو ما نفتقر إليه كإعلاميين في الداخل”.
تحاول مها أن تعوّض عن حاجتها للتدريبات بالقراءة حول الأساليب الصحفية والانتباه لبنية المقالات التي تقرأها، وتضيف “عُرض علي حضور ورشات تدريبية في لبنان وتركيا، لكن من المستحيل في حالتي أن أحضر وأعود بعدها إلى سوريا لمخاوف أمنية”.
وتنوه مها إلى عوائق أخرى للعمل من الداخل، كالنقص في المعدات والبنية التحتية اللازمة من كهرباء وإنترنت.
صحافة “عن بعد“
يرى طريف العتيق، وهو مدون وصحفي في عددٍ من الصحف “الثورية”، أنه وعلى الرغم من الاعتقالات والتصفية التي يقوم بها النظام بحق الصحفيين السوريين إلا أنها مشكلة مشتركة بينهم وبين جميع السوريين بلا استثناء “وإن كانت بحق المشتغلين بحقل الإعلام النصيب الأعنف منها، بالإضافة لممارسات التضييق والاعتقال التي مُورست على الكثير من الصحفيين في المناطق المحررة من طرف الكتائب المقاتلة، حتى وصلنا إلى حال يصح فيها القول إن معظم الكوادر الإعلامية والصحفية السورية تعمل في دول الجوار السوري”.
ويضيف العتيق أن لجوء معظم الصحفيين إلى دول الجوار أفرز صعوبات أخرى “العمل الصحفي قائم على الاحتكاك مع المجتمع ومعاينة مشكلاته وعيشها، اليوم كصحفي أواجه صعوبات في التواصل مع المعنيين في الداخل والتحقق من حوادث وملابسات قضية معينة، عدا عن فقدان التواصل مع رجل الشارع وهو المصدر الأول والأخير لأي صحفي”.
وبحسب رأي طريف فإن ذلك كله يدفع إلى وضع يُراد فيه للصحافة السورية أن تُحشر في خانة ما أسماه “معارضة الخارج وإعلامه”، موضحًا “بمعنى سلخ الإعلام عن الواقع، وسلخ الواقع عنه، ودون التنبه لمثل هذه التحديات سنجد أنفسنا فجأة كصحفيين في الخارج بعيدين عن ملامسة الواقع كما هو”.
كيف نوجد نموذجًا ربحيًا؟
أحد التحديات التي أشار إليها العتيق كان مشكلة التمويل والدعم، ويوضح ذلك “توقفت الكثير من الصحف السورية عن الصدور بعد مسيرة عمل مميزة، فمن أصل 300 مطبوعة تقريبًا نرى اليوم الاستمرار من نصيب عشرات المطبوعات فحسب، ويعود ذلك في الغالب للاعتماد في العمل على التمويل الخارجي الذي يشهد انقطاعًا وانحسارًا دائمين، ما يجعل استمرارية الصحف مرتهنة بحالة التمويل ورضا الممول”.
ويرى طريف أن المؤسسات الإعلامية اليوم بحاجة لتعلم “كيفية اصطياد السمك”، مضيفًا “ما أعنيه هو القدرة على إيجاد نماذج ربحية تموّل المشاريع الإعلامية وتكفل لها ديمومتها”.
داء “الشللية“
يارا، اسم وهمي لصحفية سورية، هي الإعلامية الوحيدة التي التقينا بها من خريجي كلية الإعلام ومن حملة رسالة الماجستير أيضًا وممارسي العمل الصحفي قبل الثورة، إلا أنها، رغم ذلك، لم تستطع البدء في العمل مع صحف ثورية إلا في الآونة الأخيرة، وهو تابع لما أسمته “داء الشللية” التي أصابت العديد من المؤسسات الإعلامية.
وتشرح وجهة نظرها بالقول “غالبًا ما يعتمد العمل في الصحافة على المعارف ودرجة القرابة والواسطة والمحسوبيات، عوضًا عن الحكم على الكفاءة والتحصيل العلمي، فأولئك الذين لا يمتلكون طرقًا للوصول لهيئات تحرير الصحف أو تزكية من أحدهم هم الأقل حظًا بالنشر ودخول عالم الصحافة “.
توافق يارا طريف على دور التمويل في استقلال الصحافة، وترى أن تطور العمل وتراجعه يعودان للمؤسسة “وحرصها على العمل المهني مع التحرر من قيود التمويل”.
#اليوم_العالمي_لحرية_الصحافة:
تزامن إعداد هذا التقرير مع اليوم العالمي لحرية الصحافة في الثالث من أيار، وفيه سألنا الصحفيين عن وضع “الصحافة الثورية” وحريتها اليوم، بالنسبة لكريم فهو يرى أن الحرية المطلقة ضرب من الخيال “تحت أي حكم وفي أي مكان ليس ثمة حرية مطلقة للصحفي بكتابة ونشر ما يريد، وهو ما أتحايل عليه أحيانًا بالنشر في مدونتي الخاصة”.
توافق مها كريم بقوله، وتضيف “خصصت الأمم المتحدة هذا العام لحق الوصول للمعلومات، وهو ما نفتقر إليه بشكل كبير كصحفيين، بل لعله من أبرز التحديات التي تواجهنا جميعًا”.
أما طريف فهو يعرب عن تفاؤله بهذا الصدد، ويقول “نسفت الثورة الكثير من الخطوط الحمراء، المشهد الإعلامي اليوم فريد بتنوعه في تاريخ سوريا المعاصر، والقيود في حالة الصحافة المعارضة ليست بالشيء الكثير، رغم أن بعض الكتائب المقاتلة تفرض رقابة جائرة على عدد من الصحف، إلا أن هذا فعليًا لم يثن أيًا منها على المتابعة بنفس النهج”.
أحصى موقع “أرشيف المطبوعات السورية” 294 مطبوعةً، صدرت منذ آذار 2011.
المطبوعات النشطة منها اليوم 54 بين صحيفة ومجلة، في حين توقفت 239 منها عن النشر.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :