عنب بلدي – العدد 58 – الأحد 31-3-2013
أبو فهر – داريا
إن الخبير بما بين البوطي «أحد أئمة المتكلمين الأشاعرة في عصرنا»، والألباني «محدث الوهابية الأكبر»، أو ما بين البوطي ومحمد حبش، يرى في عيون أولئك، ويقرأ بين سطورهم فرحًا بنصر لهم في مقتل البوطي، ليس لأنه كان مؤيدًا لنظام «المجرمين» فقط، بل لأنهم يرون في مقتله نصرًا لهم على أحد المفكرين المخالفين الذين أتعبوهم في مجادلاتهم، ويرون فيه حدثا سيستغلونه في صرف العوام عن المذاهب الفكرية أو العقدية للرجل، على اعتبار أن عوام المسلمين تغلب عليهم العواطف، وسيرفضون عن كل ما كتب الرجل لأنه كان مؤيدًا للمجرمين
ليس ذلك حكما على نواياهم ولا تأليًا عليهم، فالمتتبع لحديث محمد حبش على قناة أورينت يرى أنه قد انتهز الفرصة لمهاجمة منهج الرجل الفكري والعقدي، وكأنه يقول للناس انظروا الى هذا الرجل، لقد أيد القتلة، فكل ما كتبه باطل، وكل مناهجه فاسدة.
ويبدو ذلك أكثر وضوحًا في كتابات السلفيين، الذين فرحوا بموت الرجل لكونه أشعري أكثر من فرحهم لكونه مجرمًا، فكلام السديس يركز على عقائد الرجل وأشعريته، وليس أقل منه كلام الشيخ المنجد الذي هاجم الرجل وعقائده بل تعدى ذلك إلى الحديث عن غيره من الأشعريين، فهو هاجم علي جمعة مفتي مصر السابق لأنه استنكر قتل البوطي، وهناك من كل التيارات الاسلامية من أدان قتل البوطي، ولكن المنجد لم يهاجم منهم إلا الأشعريين.
إن تلك المواقف تدل على عقلية منتشرة ومنهجية في مجادلة الخصم قائمة على هجوم شخصي على المخالف، وإن كان الواجب أن تناقش فكرته بإنصاف.
هذه المنهجية في الدفاع عن الأفكار والمعتقدات منتشرة جدا في البلاد العربية، فأقصر طريق لإبعاد الناس عن رأي أو فكرة ما، هو أن يحذروا الناس منه لأنه من أهل البدع.
مرة كان أحد الشيوخ يدرس في مسجد في دولة غربية، وكالعادة بعد الدرس جاءت الأسئلة، أحد الحضور يسأل الشيخ عن أسماء بعض الكتب، وكانت الأجوبة: هذا الكتاب فاسد، لأن ابن باز قال أن مؤلفه من أهل البدع، هذا الكتاب صالح، لأن بن باز مدح مؤلفه.
ويبدو أن هذه المنهجية التي تنحرف عن مواجهة الفكرة إلى تشويه صاحبها للتنفير منها، كانت سببًا في تخلف المسلمين، حيث كانوا يرفضون في لاوعيهم أن يتفوق الغرب «النصراني» على الشرق «المسلم»، فكانوا ينحرفون عن مواجهة تقدم الغرب الاقتصادي أو الفكري، أو الإداري أو العلمي، ينحرفون عن مواجهة ذلك إلى الحديث عن كفرهم أو عن فساد خلقي ومعاداة للإسلام، وأضر هذا المنهج بالمسلمين أيما ضرر، فما كان التفوق الغربي في تلك المجالات حافزًا لهم لمنافستهم، بل فروا من ذلك -في كثير من الحالات- إلى التحذير من الغرب والدعوات إلى أن الجهاد هو الحل لكل ما هم فيه.
هذه العقلية ربما كانت موجودة منذ اكثر من مئة عام، حيث زعم اللورد كرومر الإنكليزي، أن الاحتلال الإنكليزي لمصر أقام اقتصادها على أساس متين وإليه وحده يرجع الفضل في رفع الظلم عن الفلاح المصري المسكين، ولكن لم ينهض أحد لتفنيد دعواه على أساس اقتصادي علمي يستند على الإحصائيات والأرقام، فكان الذين يهاجمونه ينددون باستبداده وغاية ما يبلغون أن يحقروا من شأن هذه الناحية، قائلين إن المال ليس كل شيء في حياة الأمم، وكتبوا شعرًا في ذلك، إلى أن كتب كاتب انكليزي كتاب فنّد مزاعمه، نشره في انكلترا عام 1910.
المنهج الصحيح الذي يفتح ابوابا للفكر المتجدد، والنهضة العامة هو أن يواجه المسلمون مشاكلهم، ويشبعون كل فكرة أو طرح بحثًا، بعيدًا عن تجريح أصحابها، فأسلوب الهروب ما عاد مجديًا.