المسألة الشرقية.. سوريًا

  • 2016/05/01
  • 5:53 ص

حذام زهور عدي

تبلورت فكرة الاستعمار وتقوننت في القرن الثامن عشر، واشتد تنافس الدول الأوروبية الصناعية الصاعدة للاستيلاء على موارد الشعوب، واتجهت أعينهم جميعًا نحو الإمبراطورية العثمانية، بعد أن انتهوا فيما مضى من اكتشاف العالم وتقاسم اكتشافاتهم شمالًا وجنوبًا، غربًا وشرقًا.

كانت الدولة العثمانية حلمهم بسبب موقعها المهم وامتدادها أولًا، وبسبب العلاقة التاريخية العدائية غالبًا مع من يمثل الإسلام، الذي طرق بعنف أبواب أوروبا الفرنسية والنمساوية، وبالطبع فإن تراجع قوة الإمبراطورية وبداية انهيارها شجع أطماع الغرب بها معتبرًا إياها صيدًا سهلًا يمكن مناوشته في ذلك الوقت والتسرب إليه من الداخل، ليكون القطاف بمتناول اليد في الوقت المناسب،

وهكذا بدأ الأوروبيون يدخلون من باب الأقليات، وعيونهم على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، الذي مثل تاريخيًا، عبر الإمبراطوريات القديمة ثم الحروب الصليبية، الموقع الأهم للتجارة العالمية وكان خزان الحضارات منذ فجر التاريخ.

تقاسم الغرب استجلاب الأقليات، فنشرت فرنسا مدارسها ومستشفياتها وأعمالها (الخيرية) بين الموارنة والكاثوليك، وسارعت روسيا لمنافستها وفعلت مثلها لاستجلاب الأورثوذكس، بينما تواصلت إنكلترا مع الدروز والعلويين، وتأخرت عنهم أمريكا حوالي قرن، عندما أسست الجامعة الأمريكية في بيروت لتنشر المذهب البروتستانتي الصاعد. ومن نافل القول إن الغرض لم يكن يومًا الدين نفسه، بل السياسة والاقتصاد.

من خلال ذلك النفوذ استطاع الغرب أن يفرض على الدولة العثمانية تشريعات تبيح لقناصلهم التدخل في سياسة الدولة داخليًا وخارجيًا، وبالتأكيد فإن تخلف الدولة العثمانية عن اللحاق بالطفرة الصناعية الغربية وطرق الإدارة الحديثة وتململ القوميات من هيمنة العنصر التركي، وبخاصة بعد انتشار الأفكار القومية، كانت الأسباب الأساسية للتراجع السريع للدولة العثمانية وظهور ما يُسمى “المسألة الشرقية”، فالمسألة الشرقية هي تحديدًا: التنافس الغربي في امتلاك إرث الرجل المريض الذي هو الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر.

مع بدء إعلان الضباط الأتراك وفاة الدولة العثمانية، أي الدولة التي تعتمد الإسلام السني منهجًا في امتدادها الجغرافي وفي أسلوب إدارتها للبلاد، وتولي عسكريين قوميين السلطة والحكم بأسلوب التتريك والشوفينية الطورانية، تململت القوميات الأخرى وفقدت الرابط الذي كان يربطها بتلك الدولة، وساعدها النشاط الثقافي الغربي بين الأقليات من جهة، والأفكار القومية الحديثة المنتشرة بين النخب السياسية العالمية عامة والعربية خاصة، على التفكير بانفصالها وتشكيلها دولتها القومية.

التقط الغرب الأوروبي الصاعد رغبة تلك النخب، ومد لها خيوط الأمل والتظاهر بالمساعدة على تحقيق ذلك الطموح، تمامًا كما فعل مع الثورة السورية، لكنه بعدما اطمأن إلى إعلان الشريف حسين الأول الثورة العربية والانفصال عن تركيا، وبعدما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، كان المتنافسون الغربيون قد اتفقوا على تقسيم الشرق الأوسط فيما بينهم وتقديم فلسطين هدية للصهيونية العالمية.

ظن العالم أن الشعوب قد رضيت بذلك التقسيم وأن الاستقرار قد عمّ المنطقة، لكن المتابع يعلم تمامًا أن شرق المتوسط منذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم يعرف الاستقرار قط، وأن شعوبه ماتزال تدفع أثمانًا باهظة من دمائها، واستمرار تخلفها من أجل مصالح الغرب الأوروبي ثم الأمريكي- السوفييتي- الروسي.

وإذا كان صحيحًا ما يُقال بأن مياه النهر لا تجري هي نفسها مرتين من تحت الجسر، وأن مياه سوريا اليوم قانية الاحمرار، فإن أدوات المصالح العالمية متشابهة إلى درجة تجعل الاعتقاد بأن ما يحدث في سوريا هو الفصل الثاني من المسألة الشرقية. فشعار الأقليات -حصان طروادة-  مايزال الأداة المفضلة التي أثبتت نجاعتها قديمًا، ويبدو أنها ماتزال صالحة عندهم للاستعمال اليوم، واللعب بدعم الثورة في البداية ومراوغتها حتى ينضج اتفاق ما على تقاسم النفوذ أيضًا الأداة الأخرى المميزة، ولا أهمية لمؤتمرات جنيف ومجلس الأمن إلا بما يخدم تلك الأداة، وثالثًا حلول التفتيت والشرذمة ماتزال الحل المثالي للمسألة السورية، وبالأحرى لمنطقة الشرق الأوسط نفسها، والجديد أنها لن تكون دفعة واحدة إنما بالدور وبالتقسيط. وفارق آخر يُفسر شدة احمرار المياه الجديدة للنهر هو: الحكام العملاء الذين نصبوهم أساسًا ليستكملوا فصول المسألة الشرقية، وليحقنوا البلد حقن الموت فيعجلوا دفن الرجل السوري المريض قبل الاتفاق على الإرث.

وإذا كان الحل للمسألة السورية ينتظر اتفاق المصالح وتقسيم مناطق النفوذ، فإن ظروف الاتفاق لا توحي بتعجلهم في إنجازه، حتى ولو رفع أبناء الثورة أيديهم استسلامًا لمطالب النظام الأسدي، فمشكلة أوكرانيا كسوريا، تنتظر الإدارة الأمريكية الجديدة، والحل الذي يضمن الاستقرار لن يأتي، وسيظل الصراع محتدمًا يُهدد المصالح المتنافسة جميعها، ومن المرجح أن هذا ما يخشونه إن هم وافقوا على حل آني اليوم، ولذلك ينتظرون أن يأتي الحل على أيديهم بعد أن يتفانى الطرفان وتفرغ البلد ويستكين من تبقى ويعم الاستقرار إلى أجل مسمى، وإلى أن يُفتتح الفصل الثالث للمسألة الشرقية التي لن تنتهي طالما أن النظام العالمي يولّد دولًا صاعدة فاغرة الفم لالتهام كل ما يُحقق مصالحها، وطالما أن مثل هذه الأنظمة ماتزال تتربع على كراسي التسلط والنهب والفساد، وطالما أن الشعوب لا تستطيع تنظيم نفسها وتوحيد قواها واسترداد قدرتها على الحياة الحرة الكريمة.

مقالات متعلقة

رأي

المزيد من رأي