حذام زهور عدي
أوائل الثمانينيات، عندما كانت الحرب العراقية- الإيرانية على أشدها، كانت الصحف الإسرائيلية بوادٍ آخر، كانت مقالاتها تنصب على خوف إسرائيل من الخبرة العسكرية والمهارات التي اكتسبها الضباط العراقيون من تلك المعارك، وكان المحللون العسكريون الإسرائيليون يُحذرون من هذا الخطر المستقبلي. فيما بعد، قيل بأن أحد أهداف توريط صدام بالكويت هو التخلص من الشريحة العسكرية العراقية ذات الخبرة والتجربة، وبخاصة التي تعاملت مع أحدث أنواع الأسلحة، ومن اطّلع على الاستراتيجية الإسرائيلية في حروبها العربية يعرف معنى هذا الكلام، إذ كانت دومًا تعتمد على الضربات الأولى شبه الحاسمة ثم تدفع بمن يطلب اجتماع مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، فخوض حرب حقيقية طويلة الأمد كانت ممنوعة عن العرب بقرار صهيوني، لأسباب متعددة، أولها عدم تمكين العرب من الخبرة العسكرية.
خطرت ببالي تلك الخاطرة عندما سمعت تصريحات الكرملين، بأن روسيا لن تخسر اقتصاديًا بحربها السورية، فما تستخدمه من سلاحها في هذه الحرب هو خردة قديمة، تريد التخلص منها في كل الأحوال، ووجدت الشعب السوري أفضل من تستطيع التخلص منها عليه، بل وستقبض ثمنًا لهذا ما كان يخطر ببالها، حقًا إنها صفقة العصر الروسية.
لقد فتح الاحتلال الروسي لسوريا أبواب الرزق، فدعم الاقتصاد الروسي وأتاح لها استعراض صناعتها العسكرية في أكثر الأسواق استهلاكًا له، والسماء السورية أفضل الميادين لعرض بضاعتها الأحدث وتجريبها، طالما أن من يعتبره بوتين “الرئيس الشرعي” يفتح البلاد على مصراعيها لتسويق تلك البضاعة، وهكذا بدأ العالم يرى آخر صيحات السوخوي وأنواع الهلوكوبترات والمناظير والصواريخ قريبة المدى وبعيدتها المحرمة وغير المحرمة وغيرها، وحتى فنون إدارة المعارك من الدراسة إلى التخطيط إلى الإشراف والتنفيذ. ولم يعد بوتين يهتم لوقاحته الملفتة للنظر حين يعلن أن سوريا أرضًا وسماءً وشعبًا كانت ميدان تدريب جيشه، وكأن بيت الشعر العربي المعروف قد قاله الشاعر من أجله: إذا ما خلا الجبان بأرض، طلب الطعن وحده والنزالا، فجيش بوتين كان يتدرب بالذخيرة الحية ضد شعب أعزل لا يملك من الأسلحة ما يوازيه، أو يرده عنه.
لكن ما يلفت النظر، شيئان، أولهما أن الضباط السوريين الموالين والحلفاء، ممنوعون من دخول القواعد العسكرية الروسية الموجودة على الأراضي السورية مهما علت رتبهم، وفق الاتفاق الذي أبرمه الأسد مع بوتين، إلا بموافقة قيادة القاعدة الروسية، وثانيهما أنهم أيضًا ممنوعون من العمل كطيارين على الطائرات الحديثة الروسية، فمن يقود تلك الطائرات ومن يقصف الشعب الآمن هم الطيارون الروس بالدرجة الأولى، وقد يتركون للطيارين السوريين ما اعتادوا عليه من قيادة الطائرات المُنتجة قبل عشرات السنين، وما على الضباط السوريين سوى تسليم الروس إحداثيات الأماكن التي يريد الأسد قصفها. هذا عدا عن التقنيات والمعدات الأخرى.
والسؤال الآن وفقًا لما جرى في الحرب العراقية- الإيرانية، ووفقًا لما بات معروفًا من الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، هل هناك اتفاق روسي– إسرائيلي على منع وصول الأسلحة الحديثة إلى السوريين وتدريبهم عليها ولو على حساب دمار وطنهم وشعبهم وبلدهم؟ وهل بحث نتنياهو هذا الأمر مع بوتين؟ وهل أعطى بوتين تعهدات للوبي الصهيوني المحيط به بهذا الشأن؟ وأن تكون الأسلحة الروسية الأحدث بيد الروس فقط، وعلى السوريين دفع كلفة استئجارها، بدعوى عدم أهليتهم لقيادتها، وهل طمأنه بأن احتلاله لسوريا لن يساهم بتكوين جيش ذي خبرة قد يهدد أمن إسرائيل مستقبلًا حتى لو كان الآن مواليًا للأسد، وأن للطيران الإسرائيلي أن يتبختر في السماء السورية كيفما يشاء؟
لقد علَمتنا تجارب الأيام –نحن العرب عامة والسوريين خاصة- ألا نثق بأحد، فنحن في غابة مصالح الدول لسنا أكثر من طعام يسدون به نهمهم، يأكلوننا لحمًا ويقذفون بنا باشمئزاز وتعالٍ عظمًا، يساعدهم حكام لا يردعهم في خيانتهم لمصالح شعوبهم رادع من ضمير أو خلق أو عهد أو دستور أو قانون، همهم البقاء على كراسيهم إلى الأبد، يفرّطون بقدس الأقداس من أجلها، ونحن في كل ما نكتب لا ولن نتوجه إليهم ولن نرى في شحمهم إلا الورم الذي لا نتقي خطره إلا باستئصاله، لكننا نتوجه إلى ضباطنا وجنودنا في الجيش الأسدي، الذين ضللوهم وقذفوهم بمهاوي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ونسألهم: هل مازالوا يعتقدون أن إسرائيل هي العدو الأول لسوريتنا بصرف النظر عن النظام والموقف منه؟ وهل يؤمنون بأن أحدًا بالعالم يمكن أن يدافع عن سوريا ويحميها أكثر من أبنائها أنفسهم؟ وهل يرون أن دم شاب سوري واحد أو شيخ أو امرأة أو طفل سوري يعادل ما يدعيه صاحب الإمساك بكرسي الحكم إلى الأبد؟ فكيف إذا كان الثمن تدمير الوطن بحجره وشجره وأهله وحضارته وكل شيء فيه؟
لكن ألا يحق لنا أن نطمع بصحوة ضمير من أولئك الضباط السوريين؟ صحوة لشرفهم العسكري الذي يدوس عليه الغرباء يوميًا، صحوة يحمون بها كرامتهم وكرامة شعبهم ووطنهم، وهل يرضى أي ضابط في العالم كله أن يرى وطنه ودماء شعبه ميدانًا لتدريب للغرباء دون أن يحق له توجيه سؤال لهم؟ وعندما ينتهون من التدريب، يسحبون ما غلا ثمنه ويتركون خردتهم ليتحمل الشعب السوري ثمنها عشرات السنوات؟ ألا يعي أولئك أنهم يسرقون قوت أولادهم ومستقبلهم ودماءهم إن كانوا موالين أم لم يكونوا، لا فرق عندهم إلا ما يكسبونه؟ غير آبهين بأنهار دماء إخوانهم أبناء سوريا العظيمة ولا بخرابها؟ ألا تستحق منهم سوريا أفضل مما هم به؟
ما أجمل ذلك اليوم الذي سنصحو به بعد أن خرج الغرباء جميعًا من سوريتنا و عادت إلينا حرة كريمة مهابة الجانب، هل نأمل بأن يشاركنا حلمنا هذا ضباطنا وجنودنا السوريون قبل أن يفوتنا قطار العمر؟