الديمقراطية شرك!

  • 2025/04/28
  • 2:00 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

لطالما شاهد السوريون لوحات طرقية في الموطن السابق لـ”جبهة النصرة” التي استبدلت جلدها وأسمت نفسها “هيئة تحرير الشام”، وأخواتها من المجموعات الجهادية المحلية والدولية في إدلب وريفها، كُتب عليها “الديمقراطية شرك” و”الديمقراطية تحت أقدامنا”، وتلك في حقيقة الأمر قناعات راسخة لديها وجزء من منظومتها الفكرية، لأنها ببساطة تعتقد أن الديمقراطية تكفل مشاركة الناس وإشراكهم في التشريع والحكم، وهو شيء يتنافى مع قناعاتهم بأن التشريع وظيفة إلهية فوض لأجلها بشر محددون، ولا يجب أن تترك لعبث العامة، وهي أيضًا إشراك للناس في اختيار الحاكم، بينما هم يؤمنون بأن اختياره يتم من الله، ولا يمكن بحال الدمج بين إرادة الله وإرادة البشر، لأن في ذلك انتقاصًا من مقام الألوهية التي تجعل هذا المقام مساويًا أو في ميزان واحد مع رأي البشر، وهذا هو الشرك بعينة الذي يستوجب فصل الرأس الذي تدغدغه مثل تلك الأفكار “الكفرية” عن الجسد الذي يحمل هذا الرأس!

وبالتالي، وضمن هذا المنظور للأمور، يمكن تفسير ما أدلى به مؤخرًا السيد حسن الدغيم، المدير السابق للتوجيه المعنوي في “الجيش الوطني”، والذي يشغل الآن في السلطة الجديدة مقامًا أو مكانًا لا نعرفه على وجه الدقة، والذي قال فيه إن “المرحلة الانتقالية تراعي أن الديمقراطية تخيف”، بما معناه أن الديمقراطية ستكون خطرًا على السلطة الجديدة، لأن “أحزابًا وشخصيات ستأتي من أوروبا والخليج ومعها أموال كثيرة وقد تسيطر مباشرة على الحياة السياسية، لذلك كان هناك حذر”!

إذًا، يدرك ذاك الذي تغنى دائمًا بالظعينة (التي تمشي من الباب إلى إدلب، ثم دمشق لاحقًا، لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها) أن ترك الأمور لمحض خيارات الإرادة الحرة للناس غالبًا سيشكل خطرًا على مشروع السلطة الجديدة، وأنهم جعلوا من أنفسهم أوصياء على المجتمع وخياراته، وحجبوا عن السوريين في الخارج ومعظم الداخل والمكونات الأخرى في المجتمع حق الخيار والاختيار، ولأجل تعزيز ذلك حرصوا على أن تكون فترة المرحلة الانتقالية طويلة ليتمكنوا من تجذير أنفسهم في بنية السلطة التي يشكلونها على هواهم لا على هوى السوريين، وحصلوا فيها على أدوات الحكم والإدارة واحتكروها كلها بين أيديهم ومنحوها لزعيمهم الأوحد، بانتظار صياغة دستور يجسد تلك الأفكار المشوشة بنصوص مكتوبة، ربما بلغة تحاكي العصر في الشكل وتجافيه بالضرورة في المضمون، يتيح حكم سوريا لنصف قرن آخر تحت عباءة فكر ماضوي يجفل من معطيات وأدوات العصر في الحكم وإدارة شؤون الدولة والناس.

كلمة الديمقراطية نفسها لم ترد في أي تصريح أو خطاب للرئيس الشرع، كما لم ترد في مخرجات مؤتمر الحوار ولا في وثيقة الإعلان الدستوري على الإطلاق! والمسألة لا تتعلق بالأقوال المجردة فحسب، بل أيضًا بالأفعال التي يمكن أن تقرأ مضامينها بالسياق العام للسياسات والقرارات، التي لا تشي أبدًا بأن هذه السلطة تسعى حقًا نحو تحول ديمقراطي، بل نحو تكريس نمط من الحكم الثيوقراطي الذي تغلب عليه وتدار فيه الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من رجال الدين الذين يظنون أنهم يشغلون ويديرون مواقعهم في السلطة بتفويض إلهي لا بتفويض شعبي، واستطرادًا فهم يؤمنون بالضرورة أنه لا سبيل لهم لمغادرة مناصبهم إلا إذا قضى الله أمره!

هي إذًا سلطة المتغلب التي تفرض نفسها عنوة بقوة ورهبة ما تملكه من سلاح، تحاول أن تبني لنفسها شرعية للحكم بدعم إقليمي ودولي مفترض، مراهنة في ذلك على عدم رغبة هذه الدول بمزيد من الفوضى في البلاد والمنطقة، وأن لا بديل عن تلك السلطة في الوقت الحالي على الأقل لإدارة وضبط تلك الفوضى.

أما عن شرعيتها الشعبية، فهي لا تزال تراهن على ما حصلت عليه من زخم وقبول شعبي لا يزال حتى اللحظة يعلق آمالًا عليها بالاستجابة، لتأمين الحد المعقول من الخدمات الأساسية وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، بما يخفف عنهم وينقلهم من مستوى الفاقة والجوع إلى مستوى القدرة على الحصول على لقمة العيش اليومية لا أكثر، بعد أن توارت لديهم كل القضايا الأخرى المتعلقة بالمستقبل أمام حلكة ظلام الواقع الحاضر.

يدرك السوريون بلا شك أن حالهم اليوم لا يتيح الانخراط في حالة ديمقراطية، فضلًا عن إنتاج أدواتها وتهيئة أوضاع داخلية تتيح ممارستها أصلًا، لكن هذا لا يعفي السلطة الحالية، إن كانت حقًا تؤمن بها بشكل ما أو تريدها بصورة ما، من التأسيس لها سواء على المستوى الدستوري، وهذا لم يحصل، أو بعدم إنتاج سلطة سياسية موازية في الخفاء تحتكر القرار السياسي وتقرر السياسات العامة كبديل احتكاري للسلطة عن حزب “البعث” المنحل، وهذا ما فعله الشيباني بقراره إنشاء أمانة عامة للشؤون السياسية تتبع وزارته ويكون لها ممثلون في كل المحافظات السورية، أو بعدم تعطيل عمل الأحزاب السياسية وتجميد مفاصلها ريثما تجد السلطة وقتًا وتقرر إصدار قانون جديد للأحزاب.

إن المسار الذي تمشي عليه السلطة في كل ما قررته من سياسات وإجراءات لا يشي على الإطلاق إلا بالضد تمامًا، من إمكانية خلق ظروف ملائمة لتحول ديمقراطي حقيقي، وأزعم أن قناعتها بأن “الديمقراطية شرك” التي كانت تعلنها قبل وصولها للسلطة، لا تزال قناعة ثابتة وراسخة ولم تتبدل أبدًا، سوى في أنها لم تعد تعلن ذلك بالقول بل تفعله بالممارسة، وهذا ما سيدفع بسوريا إلى نفق معتم ربما لا تخرج منه أبدًا.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي