شهادة المختطفات في إدلب.. تحليل نفسي لظاهرة التصديق والإنكار

  • 2025/04/28
  • 11:30 ص
أحمد العسيلي

أحمد عسيلي

منذ حوالي السنة والنصف، وبينما كنت بالمترو صباحًا في الطريق إلى عملي، قرأت مصادفة في صفحة “فيس بوك” عربية، لم أكن أعرفها ولم أعد أذكرها، سؤالًا عن مقهى مناسب لسهر مجموعة من البنات. في سياق ردود طافحة بالتشدد الأخلاقي ضد خروج النساء إلى المقهى، أضفت تعليقًا ساخرًا كنت قد سمعته منذ سنوات طويلة منسوبًا للشيخ الكشك في مصر، لا أعرف مدى صحته يقول: “لا يجوز للمرأة الخروج من بيتها إلا لثلاث، من بطن أمها، إلى بيت زوجها، أو إلى قبرها”. لم يكن التعليق إلا محاكاة ساخرة، ظننت أن تطرفه الشديد سيفضح تهكمه، خاصة ضمن ذلك السياق، ثم نسيت الأمر تمامًا، لأتفاجأ في اليوم التالي بانتشار التعليق في مئات الصفحات وفي مختلف منصات “السوشيال ميديا” كدليل على عقلية دينية متطرفة، وتبنّته منظمات وصفحات كأنه صوت من داخل ذلك التيار، واعتبره كثيرون دليلًا على مستوى التطرف الذي وصلت إليه العقلية الإسلامية.

تذكرت هذه الحادثة الأسبوع الماضي، حين شهدنا انتشار وثيقة مزيفة تزعم أن وزارة الدفاع السورية أصدرت تعليمات بإلزام الجنود بالصلاة داخل القطعات العسكرية، لم يسبق نشرها تحقق أو تساؤل، فقط تصديق أو تكذيب فوري، كلاهما انفعالي، ثم بعدها بعدة أيام، جاءت شهادة للناشطة هبة عز الدين حول احتمالية وجود نساء علويات مختطفات في إدلب، بناء على وجود شكل غريب لحجاب امرأة شاهدتها مصادفة في أحد أسواق المدينة، وكالعادة انقسم الجمهور حولها كما انقسم حول الوثيقة: منهم من رأى فيها كشفًا للعدالة، بل دليلًا دامغًا على صحة بعض الشائعات، ومنهم من اعتبرها اختلاقًا وكذبًا، لتبرير خطاب مضاد.

ثلاث وقائع متباعدة في الزمن والمحتوى، توحدها آلية واحدة: رغبة مستعجلة في التفاعل مع الرواية، لا بوصفها خبرًا أو شهادة قد تكون كاذبة أو صادقة، بل كعنصر مؤسس لهوية أو موقف، ليصبح فعل التحقق مرهقًا على المستوى الانفعالي، لأنه يهدد اتساق الهوية أو شرعية الانفعال، ويزعزع الركائز النفسية التي تمسّك بها المتلقي كي يحفظ صورة نفسه والعالم (تخيل أن أكون مخطئًا بعد كل هذا التطرف مع أو ضد تلك الشهادة!).

في كل تفاعل انفعالي مع رواية منتشرة، تكمن رغبة خفية تتجاوز مضمون الحدث نفسه، ليس المهم ما إذا كانت الرواية صادقة أو ملفقة (مع خطورة الاحتمالين)، بل ما تثيره من لذة (jouissance) تُرضي خيالات دفينة داخل الذات. المبالغة في الغضب أو التنديد أو حتى السخرية، لا تعبّر فقط عن موقف أخلاقي، بل عن رغبة في تثبيت صورة عن الآخر: المتخلف، الظالم، أو المهدِّد، أو الكاذب… هذه الصورة تُمنح شحنة وجدانية شديدة، ويجري استثمارها في بناء هوية متماسكة عبر نفي الآخر وتشويهه (سكان إدلب متعصبون، العلويون فلول)، فالرواية لا تُستقبل كمعطى خارجي، بل تُستدعى لتلائم بنية داخلية تبحث عن تأكيد، ويصبح تكرارها وتمجيدها ممارسة وجدانية تمنح نوعًا من الاطمئنان.

لكن الأكثر خطورة هنا، هو نسيان الحدث نفسه، وتحوله إلى تأكيد لهوية ما أو انتماء لأحد الجماعات (تصدق إذًا أنت فلول، تكذب إذًا أنت إسلامي متطرف)، وتنعدم هنا أي فرصة لأي نقاش عقلاني، لأن المواقف كلها تحولت إلى “باكج” واحد، ومعارضة حدث ما، سيصبح وكأنه إعلان انشقاق عن المجموعة.

هذه الحاجة إلى الاطمئنان الداخلي من خلال تثبيت الانتماء إلى المجموع، حين تُلبّى من خلال روايات غير متماسكة أو مشكوك بصحتها، تخلق مع الوقت هشاشة داخلية أعمق، يصبح المرء معتمدًا على الجرعة اليومية من الأحداث والمرويات التي تعيد تثبيت قناعاته (في كلا الاتجاهين)، وأي شك في صدقية هذه الروايات لا يُستقبل كدعوة للتفكير، بل كتهديد مباشر لهويته، وهكذا يصبح “التحقق” فعلًا عدائيًا. لذلك، لا يعود مستغربًا أن يكون الإنكار أو الدفاع الغاضب أكثر حضورًا من التساؤل أو التريث، وهذا ما يفسر لغة نفي الآخر المنتشرة بكثرة هذه الأيام، فهي تعبر بأحد الأشكال عن خوف داخلي دفين في انهيار كل أسس ذواتنا ومروياتها.

ما نراه إذًا ليس فقط رد فعل على حدث معيّن، بل استجابة لبنية داخلية تبحث عن الثبات والمعنى، الاندفاع للتصديق أو التكذيب لا ينتج عن سذاجة أو خبث بالضرورة، بل من قلق داخلي، وحاجة إلى تصنيف العالم بسرعة إلى خير وشر، صواب وخطأ، نحن وهم، هذا التصنيف يعيد رسم حدود الأمان، ويمنح المتلقي شعورًا عابرًا بالسيطرة، حتى وإن كان وهميًا.

في هذا السياق، يتضاءل الحدث نفسه لمصلحة أثره الرمزي، سواء كانت الوثيقة حقيقية أم مزيفة، أو الشهادة صادقة أم كاذبة، فهي تُوظف في سردية أوسع من الحقيقة، سردية تخدم بناء صورة الذات في عالم متصدّع. وهنا، تذوب الحقيقة في لذة الانفعال، ويفقد النقاش إمكانه النقدي لمصلحة تمثيل شعوري يختزل الواقع في رموز مبسطة ومريحة، بل يصبح كل نقاش (مع أو ضد) خيانة عظمى وبطاقة خروج من المجموعة.

إن الحفاظ على مسافة أمان كافية بين الحدث وموقفنا السياسي منه، ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة نفسية، فحين نمنح أنفسنا تلك المسافة، نعطي عقولنا فرصة لتهدأ، لتفكر وتحلل وتقرر (أو حتى لا تقرر)، حينها ننظر في الرواية لا كمرآة لهويتنا، بل كمعطى ما، يمكن قبوله أو حتى رفضه، دون أن ننهار داخليًا.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي