لمى قنوت
أفواج من الجهاديين من مختلف المشارب عبروا وقاتلوا في سوريا، كـ”حزب الله” الذي تدخل في عام 2012 إلى جانب مجموعات أخرى قاتلت دفاعًا عن النظام البائد، وخرجت أو أُخرجت من البلاد إثر الحرب على وكلاء إيران في لبنان وسوريا، إضافة إلى جهاديي “داعش” و”القاعدة” وغيرهما من الجماعات العقائدية التي ما زال جزء من عناصرها محتجزًا في سجون “الهول” و”روج”، أما الجماعات التي انضمت إلى عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى فرار الأسد، فقد تم تعيين بعضهم وتقليدهم مناصب قيادية في الجيش، واليوم تضع واشنطن شروطًا من ضمنها إبعادهم عن تلك المناصب لتخفف العقوبات التي تعوق إنعاش الاقتصاد المنهار.
على صعيد السلطة الجديدة، فقد أرادت لقرارات فصائل “ردع العدوان” أن يكون مؤتمرها “مؤتمر النصر” بمثابة مؤتمر تأسيسي لمرحلة ما بعد النظام الأسدي، وربما، من هنا يُفهم لماذا تتجاهل السلطة الدعوة لعقد مؤتمر وطني جامع، الأمر الذي جعل من التشاركية والحوار والمشاورات تقتصر على “تيارها السياسي” من شرعيين ومقاتلين ومدنيين، ويُفسر أيضًا الطريقة الأدائية التي اختُزل فيها مؤتمر الحوار الوطني لساعات معدودة، والتي قدرت بخمس ساعات، وإغفال مخرجاته أهمية بناء القطاع الأمني، وبضمنه الجيش، في البند العاشر المتعلق بالعدالة الانتقالية، والاكتفاء بالتنصيص على إصلاح المنظومة القضائية فقط، رغم أهميتها في المراحل الانتقالية، والاقتصار على جملة عامة وردت في البند الثالث المتعلق بحصر السلاح بيد الدولة والذي تضمن جملة “بناء جيش وطني احترافي”.
وفي الواقع، إن بناء جيش بمعطيات الإدارة الحالية، التي تستفرد بتأسيسه وفق أجندتها وخلفيتها الأيديولوجية، القائمة على تقاسم السلطة بناء على الولاء، هو تعيين جهاديين أجانب، بعضهم مطلوبون في دولهم، وقادة خاضعون لعقوبات دولية، وتعيين متورطين في صراعات خارج سوريا، كفهيم عيسى قائد فرقة “السلطان مراد” فيما يُسمى “الجيش الوطني” عبر تجنيد مقاتلين ومدنيين للقتال في النيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو بدعم تركي، إضافة إلى النفوذ الخارجي وتبعية القرار للعديد من الفصائل، والعقلية الغنائمية وتقاطعها مع الفساد، وبذلك نكون أمام جرعة متكاملة من الفشل، أمنيًا ومؤسساتيًا وحقوقيًا وحتى سياسيًا، وتُبقي الباب مشرعًا أمام استمرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وديمومة الإفلات من العقاب، وتقوّض السيادة، وترفع مصالح الجماعة فوق مصالح الدولة.
لقد بنى نظام الأسدين الدولة الثكنة، أي عسكرة المجتمع، وكذلك التطبيع مع مقولة “من يحرر يقرر” هو ديمومة لعلوية العسكرة وأحكامها الفوقية الإخضاعية في بناء المؤسسات والانتقال السياسي وبناء الدولة، ودون فهم شواغل غالبية السوريين والسوريات في تحقيق القطيعة مع الاستبداد بكل أشكاله، وبناء نموذج أمني يُطمئنهم لا يخيفهم، يقوم على حماية الإنسان وحقوقه، وتعزيز الأمن الإنساني، ويعتمد في بناء القطاع الأمني، وبضمنه مؤسسة الجيش، على قواعد أرستها الدول الحديثة، قائمة على حياده، ومهنيته، وفحص أهلية المنضوين فيه، والرقابة المدنية عليه، أي رقابة المؤسسات التشريعية ومنظمات المجتمع المدني.
لا شك أن بناء الجيش والانتقال من العقلية الفصائلية وطبيعتها الغنائمية وصراعاتها على الموارد والنفوذ، وتخلصها من الريعية والولاءات الجهوية والطائفية هي عملية صعبة وطويلة الأمد، ويجب أن تتسم بملكية وطنية وإجراء مشاورات وطنية مع مراكز أبحاث مهتمة بإصلاح القطاع الأمني وخبراء الأمن، نساء ورجالًا، والاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية المتعددة المتعلقة في بناء القطاع الأمني في دول أنهكها النزاع وترهلت مؤسساتها، وأن يكون البناء جزءًا من استراتيجية شاملة للعدالة الانتقالية التحولية، والتي تقوم ركائزها على المحاسبة ومعرفة الحقيقة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات والتشريعات، من أجل إعادة الثقة في المؤسسات ومنع تكرار الجرائم والانتهاكات، وإحداث قطيعة مع ثقافة الإفلات من العقاب.
ختامًا، إن بناء الجيش المحايد، وخضوعه للمساءلة الديمقراطية، وضمان ولائه للحكومات المنتخبة ديمقراطيًا، وعدم تدخله في الخلافات السياسية بين المجتمع والحكومة، وبنتائج الانتخابات، وعدم انحيازه إلى دكتاتور أو حزب سياسي، وضمان ألا يقود انقلابًا أو يدعم انقلابًا، لا يمكن أن يتم دون قيود دستورية ومؤسساتية على دور الجيش، وقضاء مستقل، وفصل للسلطات، وثقافة مؤسساتية ومجتمعية تحترم حقوق الإنسان، وإلا فيخسر الجيش شرعيته إذا وجه سلاحه ضد الشعب أو أي فئة منه، وإذا انحاز لمصالح فئوية وتم بناؤه على اللون الواحد.