عن الواقع والواقع الفائق في الحالة السورية
أحمد عسيلي
بدا الأسبوع الماضي وكأنه واحد من أهدأ الأسابيع في سوريا منذ سقوط نظام الأسد، فعلى المستوى الداخلي، هناك اتفاق قائم بين السلطة المركزية في دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، يُطبّق بشكل معقول، ولجنة تقصي الحقائق في أحداث الساحل مُدِّد لها، والناس يترقبون تقريرها النهائي، ويبدو أن الوضع هادئ هناك، أما في الجنوب، فبعد تصعيد خطير إثر أزمة بصرى الشام، تم حل القضية بشكل شبه سحري وحُلّ “اللواء الثامن” هكذا دون أي مقدمات، ليعم الهدوء محافظة درعا، وفي السويداء تسير الأمور على المستوى السياسي باتجاه يلقى استحسانًا شعبيًا. وعلى المستوى الأمني والعسكري، فالتنسيق بين وزارة الدفاع والفصائل المحلية، وعلى رأسها حركة “رجال الكرامة” يبدو جيدًا أيضًا، حتى طارق الشوفي، الذي كان يُوصف بالأكثر تطرفًا ضد دمشق، أصبحت تصريحاته أكثر اعتدالًا.
خارجيًا، شارك الرئيس في منتدى أنطاليا، وأتبعه بأول زيارة رسمية له إلى دولة الإمارات، مع مؤشرات واضحة على تحسن العلاقات بين البلدين، فالإمارات دولة مهمة جدًا في المنطقة، وإقامة علاقات قوية معها أمر ضروري لنا، بالمجمل حالة عامة من الهدوء، وتقدم على كل المستويات.
ثم فجأة، وسط هذا الهدوء، يخرج تصريح غريب منسوب إلى باسم أبو فخر، الناطق الرسمي لحركة “رجال الكرامة”، عبر راديو أمريكي، يتحدث فيه عن “خلافات عميقة” مع العاصمة، ويشير إلى جاهزية رجال الحركة للقتال، متحدثًا عن انتشارهم في أكثر من مئة قرية! لينتشر هذا التصريح بسرعة خيالية وتردده جميع وسائل الإعلام، لتتتالى تسجيلات الصحفيين على “يوتيوب” لتحلل هذا التصريح وأبعاده السياسية. بعضهم يدين هذا الكلام، وتبدأ سلسلة الهجوم على باسم أبو فخر، بل هاجم آخرون أهل الجبل أنفسهم، وكأننا أمام شرخ وطني جديد.
لكن سرعان ما خرج أبو فخر (وهو بالمناسبة ناطق إعلامي مميز) لينفي ما قيل، ويظهر على قناة فضائية ويتكلم بلغة هادئة رزينة، يوضح فيها الملابسات، فالبعثة الأمريكية زارته في منزله منذ حوالي شهر خلال فترة أحداث الساحل، وقد عبّر حينها عن تشاؤمه (وهذا طبيعي ضمن سياق تلك الفترة)، لكن الراديو احتفظ بالمادة ليبثها لاحقًا، في لحظة هدوء، لتبدو وكأنها إعلان حرب. هذا التصرف خلق حالة فوضوية سريالية، لا تعكس الواقع، بل تصنع واقعًا جديدًا، انفجر من فراغ.
ما حدث مع تصريح باسم أبو فخر ليس مجرد حادث عرضي، بل تجسيد دقيق لنظرية “الواقع الفائق” (Hyperréalité) التي طرحها جان بودريار: لحظة تختلط فيها الحقيقة بالتمثيل، ويصبح “الوهم الإعلامي” أكثر واقعية من الواقع ذاته. ما حدث لم يكن موجودًا على الأرض، لكنه وُجِد فعليًا في الإعلام، في الوعي، في الذهن، وأثار القلق وردود الفعل، كما لو كان واقعًا حيًا.
تمامًا كما في الاقتصاد المعاصر، لم يعد المال انعكاسًا لحركة الاقتصاد (كما يفترض أن يكون)، بل أصبح محوره. الأزمة تبدأ في البورصة لتصل إلى الشارع، فيمكن لمن يعمل وينتج ويستهلك بشكل جيد أن يصاب بالفقر، نتيجة أزمة بورصة لا علاقة لها أبدًا بالعملية الإنتاجية (وهذا ما ناقشته بشكل جيد رواية في ضوء ما نعرفه لضياء حيدر رحمن)، والإعلام الآن يفعل الشيء ذاته، لا ينقل الواقع، بل يخلقه، يضخّمه، ويعيد تركيبه بما يخدم سردياته أو احتياجات البث أو المشاهدات، ثم ينتقل إلى الواقع، وهو ما عبر عنه أبو فخر حين تحدث عن الأثر السلبي لمهاترات “السوشيال ميديا” على السلم الأهلي في المدينة.
والأخطر أن هذا “الواقع الإعلامي” غالبًا ما يستقر في الذهن الجمعي، خاصة لمن هم في الخارج، ممن يعيدون بناء انتماءاتهم وصور الوطن من خلال ما يُعرض عليهم لا ما يعايشونه. حين تنقطع صلتك بالمكان، تصبح أكثر هشاشة أمام صورة المكان كما يروّجها الإعلام، وهذا بالضبط ما يجعل الجاليات المهاجرة أحيانًا أكثر توترًا وانفعالًا مما يحدث على الأرض فعليًا.
ولعل الأثر الأعمق لهذا الواقع المُصطنع هو أثره على الهوية، فالتكرار الإعلامي لوصف معين، حتى وإن بدأ كهجوم، يتحول مع الزمن إلى هوية قائمة بذاتها. لنبقى في الحالة الدرزية مثلًا، اسم “الدروز” لم يكن الاسم الذي اختاره أهل الطائفة لأنفسهم، مع أنه من حقهم إطلاق تسمية مناسبة على أنفسهم بناء على معتقداتهم، فاسمهم الأصلي هو “الموحدون”، لكن الوصف الذي أطلقه عليهم خصومهم، نسبة إلى نشتكين الدرزي، تكرّر، وتداولته الخطابات العامة، حتى أصبح الاسم الرسمي المتداول.
نفس الآلية النفسية تنطبق على اسم “الملكيين الكاثوليك”، الذي بدأ كتوصيف تهجمي، ثم أصبح هوية معترفًا بها من قبلهم هم أنفسهم. وحتى على مستوى الدول، نرى ذلك في الهند، التي يسمّيها سكانها “بهارات”، وهو الاسم الرسمي المستخدم في اللغة الهندية (भारत गणरा)، ومع ذلك، أصبح الاسم الخارجي هو السائد، حتى لدى الهنود أنفسهم، في السياقات العالمية (كلمة هند وهندي يستخدمها أصحاب الأرض فقط مع الغرباء).
هذا النمط من “التماهي مع التسمية الخارجية” يشبه في التحليل النفسي ما نسميه “التماهي مع المعتدي” (identification à l’agresseur): حين تتبنى الجماعة وصفًا عدائيًا جاءها من الخارج، وتعيد إنتاجه بوصفه جزءًا من هويتها، لتنال الاعتراف، أو لتصنع لنفسها تمثيلًا في العالم.
الإعلام لا يؤثر فقط على الهوية، بل على السلوك أيضًا، فمن بديهيات علم نفس الطفل أن التكرار اللغوي لوصف طفل بـالعنيد أو العنيف، يدفعه بمرور الوقت إلى تمثّل هذا التوصيف سلوكيًا. الكلمة تصبح مرآة، ثم تتحول إلى فعل.
هذا بالضبط ما فهمه غوبلز، وزير الدعاية النازية، حين قال: “اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس”. ليست دعوة للكذب فقط، بل خطة لصناعة واقع بديل، يجري فرضه على الأذهان بتكراره، إلى أن يصبح أكثر واقعية من الواقع نفسه. إنه بناء لواقع فائق، واقع يُدار بجيوش وذباب إلكتروني، يخلط الحقيقة بالتمثيل، ويخلق شعورًا جمعيًا، يصعب التمييز فيه بين ما هو فعلي وما هو مفروض.
في هذا الزمن المعقد، حيث تُبنى الوقائع من الكلمات، وتُصنع السياسات من الصور، يغدو الإعلام ليس مجرد وسيط، بل فاعل نفسي وسياسي، يعيد تشكيل وعينا، وسلوكنا، بل وحتى هوياتنا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :