السياسة المزدوجة
لمى قنوت
تلعب الإدارة الانتقالية الجديدة سياسة مزدوجة بمسارين متوازيين، واحد موجه للخارج، لتليين ضغوطاته، وآخر يتبنى هيكلًا مركزيًا محكم الإغلاق قائمًا على الولاء، وقد تجسدت إشكالات المسارين وتناقضاتهما، حتى الآن، في ثلاث قضايا، التشاركية، والعدالة الانتقالية، وأدوار النساء بتنوعاتهن وتنوع سياقاتهن.
فعن التشاركية، تخشى الإدارة الانتقالية التعددية السياسية، وتنظر إلى الأحزاب بعين الريبة والشك، فربطت تنظيم العمل السياسي بإصدار قانون الأحزاب وفق ما جاء في المادة “14” من الإعلان الدستوري، بينما يتغول “تيارها السياسي” في مؤسسات الدولة، بدءًا من الهيمنة على مجلس الأمن القومي، والصلاحيات الواسعة لرئيس المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، دون آليات محاسبة، إلى الاحتفاظ بالوزارات السيادية في الحكومة الانتقالية، وأكملت الإطباق على الفضاء السياسي العام بعد إنشاء “الأمانة العامة للشؤون السياسية” التابعة لوزارة الخارجية في 27 من آذار الماضي، والتي حُددت مهامها بالإشراف على النشاطات والفعاليات السياسية الداخلية، والمشاركة في صياغة ورسم السياسات والخطط العامة المتعلقة بالشأن السياسي، وإعادة توظيف أصول حزب “البعث” وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، وبذلك تكون السلطة الحالية قد استأثرت وبشكل كامل بمفاصل مؤسسات الحكم، وخلطت عمل ومهام وزارة الخارجية بالنشاط السياسي الداخلي بالبلاد في مخالفة لنص المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2016، المتضمن النظام الداخلي ومهام وزارة الخارجية والمغتربين، ووظفت أموال الدولة لدعم “تيارها السياسي”، كما استحوذ حزب “البعث” المنحل على مؤسسات الدولة سابقًا، وامتد تغول وزارة الخارجية مؤخرًا إلى تعيين مجلس لتسيير أعمال “اتحاد الكتاب العرب”، وهو تقويض لاستقلال المؤسسات الثقافية والنقابية وفرض وصاية عليها، بدل دعم استقلاليتها.
وعن الشق المتعلق بالعدالة الانتقالية، فبعد الفوضى والتخريب الذي لحق بالسجون ومراكز الاحتجاز، وإتلاف ونهب وثائق رسمية، ونبش عشوائي في بعض المقابر الجماعية بعد سقوط النظام الأسدي، تمكنت لجنة التحقيق الدولية من الدخول إلى سوريا لأول مرة منذ عام 2011، وزار محققوها مقابر جماعية ومراكز احتجاز في دمشق وريفها، وسهلت الإدارة الحالية دخول فريق تابع من مفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وزاروا خمسة مواقع بسوريا في آذار الماضي، ولكن، وفي المقلب الآخر، فإن الإدارة الحالية تهمل أهمية التحضير لمسار العدالة الانتقالية بالتشاور مع روابط الضحايا والمجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والخبراء المستقلين، رجالًا ونساء، ومؤسسات الأمم المتحدة مثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان ولجنة التحقيق الدولية المستقلة والآلية الدولية المستقلة والمحايدة (IIIM) وغيرها من اللجان والآليات، وتضرب أسس العدالة الانتقالية عبر تسويات غامضة مع عدد من المجرمين، سواء ارتكبوا جرائم اقتصادية أو جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فتحتجز بعضهم تارة، وتطلقهم تارة أخرى، ويتحول بعضهم إلى “ناشطين في السلم الأهلي” بمدينة اللاذقية، كالمجرم فادي صقر، أحد مجرمي مجزرة التضامن، دون أي اعتبار لآلام مجتمع الضحايا وأهمية إنصافهم، وفي تجاهل للرأي العام وغضبه من طريقة إدارة ملفات متعلقة بالعدالة الانتقالية، كالمطالبة بالمجرمين الفارين من سوريا واستعادة الأموال العامة المنهوبة بعد سقوط النظام.
أما عن حقوق النساء بتنوعاتهن وتنوع سياقاتهن، فمنذ سقوط النظام عيّنت حكومة تصريف الأعمال عائشة الدبس مديرة لمكتب شؤون المرأة، وبدأت بخطاب سلطوي إقصائي، أعاد انتاج عنف المجتمع الذكوري، فقررت مسبقًا إقصاء كل من ستختلف معها بالفكر، وذلك خلال حوار أجري معها على قناة “TRT عربي” في كانون الأول 2024، وتساءلت لماذا “سأتبنى نموذجًا علمانيًا أو مدنيًا”، وبأنها و”النساء” والقيادة سيصنعون نموذجًا خاصًا بالمجتمع السوري، أما عبيدة أرناؤوط المتحدث الرسمي السابق باسم “الإدارة السياسية في سوريا” فقد حدد عبر قناة “الجديد” اللبنانية معايير مشاركتهن ورسمَ حدودها، فتعيين النساء وزيرات، أو تمثيلهن النيابي هو سابق لأوانه بالنسبة لأرناؤوط، وتركَ البت في ذلك للمختصين القانونيين والدستوريين الذين سيحددون شكل الدولة، وهذه التصريحات المواربة شملت أيضًا عمل النساء في المناصب الإدارية والولاية القضائية، وأحال ذلك إلى اللجنة الدستورية والمختصين لوضع محددات لعملهن، ونفى قدرتهن على قيادة منصب وزارة الدفاع لأنه لا يتناسب مع كينونتهن وطبيعتهن البيولوجية والنفسية، وعن فصل النساء عن الرجال في الجامعات مثلًا، فهو يُفضله ليتفرغ ذهن الطالب للعملية التعليمية بشكل أفضل.
وبعد احتجاج الناشطات والناشطين على تصريحي الدبس وأرناؤوط في مواقع التواصل الاجتماعي، سارعت السلطة إلى تعيين عدد من النساء، كميساء صابرين رئيسة للبنك المركزي، والتي غادرت منصبها مؤخرًا.
ازدواجية النهج الذكوري في السيطرة على أدوار النساء بتنوعاتهن ضمن ما حددته السلطة وشرعيوها، تعمل على مستويين، الأول، وهو المُراقب دوليًا، فيتم تعيين وزيرة واحدة من أصل 23 وزير في الحكومة الانتقالية، وهو نمط يندرج في إطار الرمزية والأدائية المريحة للسلطة من أجل تحسين صورتها أمام “المجتمع الدولي”، وهي ذات السياسة المتبعة مع باقي المكونات الدينية والعرقية، أما المستوى الثاني، فهو المستوى القاعدي، وتُحشر فيه النساء بين خيارين لا ثالث لهما، إما التسريح التعسفي الذي طال مؤخرًا العديد من الموظفين والموظفات، أو انتظار قرارات صُناع القرار المتشددين دينيًا ذوي الادعاءات الذكورية المحدودة والتمييزية ضد النساء، والتحكم بلباسهن وفق ما يعتبرونه مناسبًا، حتى بالنسبة للمحجبات.
إن السياسة المزدوجة التي تتبعها الإدارة الانتقالية، التي تلتمس الاعتراف بشرعيتها من “الخارج” وتتغول داخليًا على الفضاء السياسي والنقابي وتحتكره، تصر على تجاهل أهمية عقد مؤتمر وطني تشارك فيه كل القوى الحية في المجتمع، وتنبثق عنه لجنة لكتابة الدستور الدائم، وتتغافل عن فتح حوارات مع الجماعات السياسية والحقوقية والثقافية والاقتصادية لمواجهة المخاطر التي تهدد شعب سوريا وأرضها، ولبناء عقد اجتماعي جديد، تشاركي، تعددي، قائم على الحريات الفردية والجماعية وقيم الديمقراطية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :